محمد نعمان الدين الندوي يكتب: في ظلال فكر إقبال: (٥) مكانة المسلم

نظرة على محتويات الحلقة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد. فهذه حلقة جديدة من سلسلة: «في ظلال فكر إقبال»، نقدم فيها ترجمة وشرح أبيات مختارة من قصيدة إقبال المعروفة التي تسمى: «طلوع الإسلام»، وهي من محتويات ديوان إقبال: «بانگ درا» (صلصلة الجرس).
والأبيات التي اخترناها من القصيدة، يُذَكِّر فيها إقبالُ المسلمَ بمكانته وعظمته، ويدعوه إلى تجديد إيمانه ويقينه، اللذين أصيبا بالضعف والظن والشك، مؤكدًا على أنه -المسلم- إذا عاد إلى الإيمان الصادق المطلوب، عادت إليه ريادته للعالم.
ويُذَكّره كذلك بأنه شُرّف برسالة الله الأخيرة الخالدة.. ومن هنا.. فإن وجود المسلم -أيضًا- خالد، لاتصاله برسالته، وبكتاب الله الخالد.
كما يُذكّر إقبال المسلمَ بشرف نسبته، فإنه ينتمي إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي رفع قواعد بيت الله، فليكن هو – المسلم -كذلك- بَنّاء الدنيا ومزينها، وعامرها بالتوحيد والعمل الصالح، وتنفيذ مقتضيات الدين.
ويقول: لقد حبا الله تعالى المسلمَ بمواهب عظيمة وقدرات فائقة، لم يمنحها غيره، فليستخدمها المسلم في صلاح البشرية وخير الإنسانية.
ثم يشير إلى حقيقة تاريخية هامة، وهي أن الأمة الإسلامية بمثابة: ” الحارس الأمين ” لأمم آسيا وشعوبها، بل عليها مسؤولية رعاية جميع أمم العالم وقيادتها، فلتشعر الأمة بعظم مسؤوليتها وجلالة قدرها.
وفي الأخير يوصي إقبالُ الأمةَ بتبني صفات الصدق والعدل والشجاعة، التي بها ساد سلفُه العالمَ، فقيادة العالم تنتظره، والدنيا تتطلع لعودته إلى السيادة مرة أخرى.
البيت:
خدائے لم یزل کا دستِ قُدرت تو, زباں تو ھے
یقیں پیدا کر اے غافل کہ مغلوبِ گُماں تو ہے
الترجمة:
أنت يد القدرة للرب جل وعلا، ولسانُه
أيها الغافل أحدث – جدد – الإيمان واليقين، فأنت مغلوب – ضحية – الظن.
الشرح:
أيها المسلم! هل فكرت قط في مكانك من هذا الكون ومكانتك الفريدة بين الأمم…؟
أنت يد القدرة لله -الذي ما زال ولا يزال- ولسانُه وبيانُه
فبك يريد خالقُك أن يخاطب أهلَ الدنيا..
أي جعلك الله حافظًا لكلامه، وأمينًا عليه، وعهد إليك بتبليغه إلى كافة الناس.
فعندك أعظم منهج للحياة: (القرآن الكريم).. المنهج الشامل المتكامل، الذي يمثل ترجمانًا لمشيئة الله وإرادته..
ولكن أنت -أيها المسلم- ضحية عدم الثقة واليقين..
فلِتَكُون على معرفة تامة بحقيقتك.. لا بد أن تحصل على الثقة واليقين..
إن قلبك صار مرتعًا خصبًا للشكوك والشبهات.. فحُرمت معرفة الحقائق وإدراكَها..
فعليك أن تجدد الإيمان بالله وتقوي صلتك به، وتوفر حظك من اليقين.. وتسترد الثقة بنفسك، وتعرف قدرك وعظمتك.. وتستشعر حظوتك عند الله، وأهميتك وقيمتك ومكانتك المتميزة بين أفراد سائر الأمم والشعوب. (كنتم خير أمة).
أيها المسلم! أنت قوة منفذة لمرضاة الله تعالى على الأرض..
ولكن وا أسفاه.. تجردت من الإيمان واليقين.. وصرت عاريًا من الثقة.. فأنت – الآن – غارق في محيط الشك والظن والتخمين..
فإذا أحدثت اليقين الصادق.. اليقين الراسخ، عادت إليك ريادة العالم مرة أخرى بإذن الله!
البيت:
پرے ہے چرخِ نیلی فام سے منزل مسلماں کی
ستارے جس کی گردِ راہ ہوں، وہ کارواں تو ہے
الترجمة:
إن منزل المسلم أسمى وأبعد من السماء الزرقاء.
أنت – أيها المسلم -ذلك الموكب- ذو المسافة الطويلة طولًا لا يقدر ولا يحسب – الذي تُعَدً النجوم غبارًا في طريقه…
الشرح:
ألا تعلم أيها المسلم! أن منزلك وراء هذه السماء الزرقاء.. أسمى وأعلى منها بكثير وكثير..
إن موكبك يواصل رحلته إلى العلو.. حتى يتجاوز في ارتفاعه علو السماء.. بل حتى تصير النجوم والكواكب غبار طريق موكبك..
أي لا يستطيع أحد أن يقدر منازلك السامية ومقاماتك الرفيعة..
إن الله سبحانه بوأك مكانًا عاليًا لم تحظ – ولن تحظى – به أمة من الأمم.
فاعرف قدرك أيها المسلم.. وكن على مستوى منزلتك..
فإذا عرف المسلم قدره، وقام بواجبه على الوجه المطلوب، عاد رائدًا للعالم وقائدًا للبشرية مرة أخرى.
* * *
البيت:
مکاں فانی، مکیں آنی، ازل تیرا، ابد تیرا
خدا کا آخری پیغام ہے تُو، جاوداں تو ہے
الترجمة:
المكان (الدنيا) فانٍ، وساكنه عابر..
والأزل لك.. والأبد لك
أنت رسالة الله الأخيرة.. وأنت دائم باقٍ..
الشرح:
يقول الشاعر: اعلم أيها المسلم! هذه الدنيا فانية.. وسكنك فيها -أيضًا- موقت غير دائم، وإقامتك فيها عابرة..
ولكنك -من حيث الأمة- دائم باقٍ.. فلا أمة تُبعث بعدك.. فكل شيء يفنى ويمحي ويزول.. ولكنك -بصفتك حامل الرسالة الأخيرة لله رب العالمين- تبقى ولا تزول.
لا يظنّنَّ ظانٌّ أن معنى البيت أن المسلم يبقى أبدًا.. ووجودُه على الأرض يدوم.. أو أنه يملك الأزل والأبد..
حاشا وكلا.. ليس هذا مراد الشاعر البتة..
وإنما المراد أن المسلم أمين رسالة الله الأخيرة في هذا العالم، وهو المكلف بتبليغ القرآن الكريم ونشر توجيهاته، فوجوده يبقى ما دام تبليغ القرآن الكريم ونشره باقيًا.. فخلوده -المسلم- بخلود كتاب الله..
فلا كتابَ ينزل بعد كتاب الله، ولا أمةَ تُبعَث بعد أمة محمد على صاحبها الصلاة والسلام.
فما المسلم وما مكانته؟ إذا لم يكن داعيًا إلى رسالة الله.. ففي ظلال هذه الرسالة القرآنية خلود المسلم وبقاؤه، وبها عزته وشرفه.
مرة أخرى نؤكد أن التعبير: «الأزل لك، والأبد لك» تعبير شعري.. وإلا فالشاعر -مثل إقبال- لا يمكن أن يكون معتقدًا بكون المسلم أزليًّا أبديًّا، فإن ذلك المعتَقَد معتقد خاطئ يعارض القرآن الكريم.
فالمعنى: بما أن القرآن الكريم رسالة الله الأخيرة، وهي دائمة باقية إلى قيامة الساعة، والمسلم حاملها.. فمن هنا.. المسلم -أيضًا- باقٍ مستمر الوجود دائم العطاء لاتصاله بالكتاب الباقي.. ولاختياره دين الله: «الإسلام».. الإسلام الحيّ الخالد المتدفق بالقوة والحياة.
وقال بعض شارحي كلام إقبال في بيان معنى البيت: إن هذه الدنيا مكانٌ فانٍ، ولكن ساكنها المسلم باقٍ.
إن بدايتك في علم الله منذ الأزل، كما أن مصيرك – أيضًا – عالٍ صاعد ّ متجه إلى الأبد، وبما أنك أمين لدين الله الأخير، فأنت – أيضًا – دائم باقٍ لبقاء الدين وخلوده.
البيت:
حنا بندِ عروسِ لالہ ہے خونِ جگر تیرا
تری نسبت براہیمی ہے، معمارِ جہاں تو ہے
الترجمة:
إن جمال الزهرة الرائعة أو شقائقِ النعمان -التي تبدو كالعروس التي زُينت وجُمّلَت بالحنّاء- وحسنَها وبهاءَها بدم قلبك أيها المسلم!
ونسبتك نسبة إبراهيمية، وأنت بَنّاء العالم.
الشرح:
المراد بـ: «دم قلبك»: جدُّك واهتمامُك، وكدُّك واجتهادُك.
يقول إقبال إن ما نرى – اليوم – في الدنيا من جمال الحضارة والمدنية أو حتى جمال الفطرة…
كل ذلك نتيجة تضحيات المسلمين وكدحِهم وكفاحِهم، وحرارتِهم الروحانية، ورسوخهم في العقيدة وتفانيهم في الدعوة.
إن جمال واحة الدنيا وزينتها، واخضرارها ونضارتها.. كل ذلك بفضل المسلم الذي يضحي بنفسه ونفيسه، ودمه وروحه، وجميع مواهبه وقدراته.
ثم أنت -أيها المسلم- تتشرف بالانتماء إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام بصلة مميزة خاصة.. فأنت -أيضًا- بَنَّاء العالم!
فكما رفع إبراهيم قواعد بيت الله.. فابنِ أنت -كذلك- دنيا (إسلامية) جديدة..
أيها المسلم! إن مسؤوليتك أدق، وواجبك أعظم.. عليك واجب بِناء العالم كله، أنت الأمين على قدرات الدنيا وإمكانياتها.. فمن هنا.. أنت المكلف بحراستها والحفاظ عليها. ومِن ثَم باستخدامها لإصلاح العالم وبنائه، وتحسينه وتطويره..
فكن – أيها المسلم.. يا صاحب المسؤولية الكبرى – على مستوى شرف المسؤولية وتبعاتها..
فلا صلاح للعالم إلا بتمام شعورك بمسؤوليتك، والقيام بأدائها على الوجه المطلوب.
الشاعر يحاول – بهذا البيت البليغ – إثارة العاطفة، وإيجاد الوعي المفقود في المسلم، وتذكيرَه بقدره وعظمته، ودوره في بناء العالم.
إنه يُذكّر المسلم بنسبته الإبراهيمية الجليلة.. ومعلوم أن النسبة وحدها لا تكفي ولا تسمن ولا تغني من جوع.. ما لم يأت أصحاب النسبة بما أتى من يتشرفون بالانتساب إليه من المآثر والصنائع..
فانهض أيها المسلم! مرة أخرى لبناء العالم!
البيت:
تری فطرت امیں ہے ممکناتِ زندگانی کی
جہاں کے جوہرِ مضمَر کا گویا امتحاں تو ہے
الترجمة:
إن فطرتك مستودع أمين لإمكانات الحياة وأسرار الوجود.
فكأنك مختَبَر لجوهر العالم المكنون..
الشرح:
الجوهر المكنون: الروح الأصيلة.
أيها المسلم! لقد أودعك الله من المواهب والصلاحيات والاستعداد للرقي والتقدم والإقبال ما لا يوصف ولا يقدر..
فلتكن شاعرًا بأهميتك وقدرك حق الشعور، فإن أضعت صلاحياتك ومواهبك، فكأن هذا الكون يفشل في الامتحان.
لقد أخفي الله الكثير من النعم والقدرات والطاقات في هذا الكون، فإن لم تكشف عنها أنت، ولم تصل إليها، ولم تتمكن منها، ولم تنتفع بها، ضاع مقصد إيجاد هذا الكون وخلقه.
فكأن الرب وهبك من القوة والصلاحية، ما تستطيع به الكشف عما وضع في: ” سِتْر السِرّ ” من الأشياء التي تخفي عن أنظار الآخرين.. تلك الأشياء التي ما خلقت إلا لنفع بني البشر، وتصب كلها في مصلحتهم.
البيت:
جہانِ آب و گِل سے عالَمِ جاوید کی خاطر
نبوّت ساتھ جس کو لے گئی وہ ارمغاں تو ہے
الترجمة:
أيها المسلم! ما أنت إلا تلك الهدية التي ذهبت بها النبوة -تصاحبها- من دنيا الماء والتراب هذه إلى عالم الخلود والبقاء
الشرح:
قالوا: معنى البيت أن الله سبحانه وتعالى يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة: نحن كنا بعثناك نبيًّا إلى الدنيا، فماذا فعلت فيها من الأعمال والصنائع؟
فيجيب الرسول صلى الله عليه وسلم الرب َ تعالى: لقد أعددتُ جماعة مباركة من عبادك المخلصين من أمثال أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان الغني وعلي المرتضى رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
فرسِّخ الإيمان في قلبك أيها المسلم! حتى تكون يوم القيامة من أولئك السعداء الذين يباهي بهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
فخلاصة معنى البيت أن هذه الدنيا – دنيا التراب والماء – دار عبور، وليست بدار قرار، والحياة الأصيلة الباقية الدائمة، هي الدار الآخرة، والرسالة التي أُكرِم بها المسلمون، هي رسالة ربانية وصلت إليهم عن طريق النبوة..
فأنت أيها المسلم! حامل هذه الرسالة، التي بها نجاة الإنسانية وفلاحها، وعزها وشرفها.
البيت:
یہ نکتہ سرگزشتِ مِلّتِ بیضا سے ہے پیدا
کہ اقوامِ زمینِ ایشیا کا پاسباں تو ہے
الترجمة:
إن تاريخ الأمة الإسلامية الماضي يجتلي نكتة -حقيقة واضحة- تتمثل في أنك أيها المسلم! حارس أمم أرض آسيا، والقيم عليها.
الشرح
إن تاريخ الأمة الإسلامية يشهد بأن المسلم قام بحراسة أمم آسيا وقيادتها..
فأنتِ – أيتها الأمة المسلمة – تستطيعين أن تكوني ناصرة المظلومين وحامية لهم من عدوان الظالمين، ودرعًا ضد الطغاة المستعمرين الظالمين.
فأنتِ الأمل الوحيد للمضطهدين المعذبين البائسين..
والكاتب (نعمان) يقول: إن الأمة الإسلامية لم تبعث لحراسة أمم آسيا وحدها وريادتها فحسب، بل إنها – من حيث كونها أمة أخرجت للناس – جُعلت راعية لجميع أمم الأرض، وكُلّفَت بشرف هدايتها وريادتها:
{كنتم خير أمة أخرجت للناس}.
البيت:
سبق پھر پڑہ صداقت کا، عدالت کا، شجاعت کا
لیا جائے گا تجھ سے کام دنیا کی امامت کا
الترجمة:
اقرأ -مرة أخرى- درس الصدق، والعدل، والشجاعة.
فسيُعهَد إليك – مرة أخرى – بقيادة العالم وريادته.
الشرح:
هذا البيت الأخير من القصيدة -في الحقيقة- يستحق أن يكتب بماء الذهب، و-يستحق كذلك- أن يسمى بيت القصيد، وعصارةَ رسالةِ القصيدة كلها.
فما معنى هذا البيت؟
يوجه إقبال نداءه الأخير قائلًا:
أيها المسلم! أعد قراءة دروس الصدق والعدل والشجاعة..
فسيعهد الله إليك مرة أخرى بقيادة العالم..
نعم ستقوم بريادة العالم وإمامة الأمم كما قمت بذلك في الماضي..
وذلك ليس بدعوى مباهاةٍ أو مكابرة..
بل إنما هي مسؤولية كبيرة ألقيت على كاهلك، وتبعة جسيمة مشَرّفة كلفت بها من حيث منصبك ومكانتك..
أيها المسلم! في الوضع الحاضر يجب عليك أن تتذكر خصائص آبائك وأجدادك، وتتبناها وتلتزم بها، فإنه من المقرر الأكيد أنك المكلف والمسؤول عن قيادة العالم وتوجيهه، وستعود إليك قيادة الدنيا من جديد لا محالة إن شاء الله.. فأنت المؤهل الوحيد لها بفضل الله.. وبحكم المنصب وشهادة التاريخ.
المراد بـ: «الصدق» أن يكون المسلم مثلًا أعلى للصدق (ومظاهره وألوانه)، وداعيًا إليه، ملتزمًا به أشد ما يكون الالتزام، غير مائلٍ عنه – قيد أنملة – مهما كانت الظروف قاسية وحرجة..
والمراد بـ: «العدل» أن يكون المسلم قائمًا بالقسط، يحكم بالعدل، دون تمييز أو محاباة أو محسوبية.
والمراد بـ: «الشجاعة» أن لا يخور المسلم ولا يضعف ولا يجبن، بل يكون مثالًا للشجاعة والبسالة إذا خاض الوغى لمواجهة صناديد الباطل ومقارعة الطواغيت ومنازلة رؤوس الشر والفتنة والفساد.
وبعد. فقد هبَّ – أو كاد – المارد العملاق من غفوته الثقيلة الطويلة.. بعد أن كان انقطع عن صدر الزمن ومنصة القيادة..
وإذا استيقظ العملاق.. فالويل للأقزام وخفافيش الظلام..
وإذا أسفر الصبح.. أدبر الليل..
وإذا ساد العدل.. ولى الظلم..
وإذا جاء الحق.. زهق الباطل..
وإن الباطل كان زهوقا.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
(الجمعة: ٣ من ذي القعدة ١٤٤٦ھ = ٢ من مايو – أيار – ٢٠٢٥م)