أقلام حرة

حاتم سلامة يكتب: ليت أمي لم تلدني

منذ سنوات وأنا أحشد قدرًا كبيرًا من تجارب حياتي ومواقفي وتأملاتي، فأنا أسجل كل شيء حتى يكتمل هذا الوليد الذي أعده ليخرج مطبوعًا ورقيا يسعد به القراء، وليكون أوثق كتبي وأكثرها تعبيرًا عني.. أريد أن أحاكي به الكبار وأسرد سيرتي الذاتية.

كنت أسابق الأيام كالريح، إلى أن جاءت هذه الأيام النكدات، وجعلتني أتوارى خجلا، وأشعر بلفح العار يكويني، كيف أخبر الناس ممن يأتون بعدنا ويقرؤون كتابي، أنني من أبناء هذه الأيام التي شهدت هذه المذابح المهولة لأبناء غزة الأبرياء؟

بل كيف ينظرون إلى كتابي حينما يعلمون أنني من نبت هذه الحقبة السوداء.. وكأني أرى أحدهم اليوم يقرأ عنوان كتابي فيميل على صاحبه ويقول:

إنه من أبناء الزمن الجبان

من جيل الخذلان

من أمة كانت فريسة الطغيان.

وأعود لأقول: هل يمكن لحزني وأساي أن يكون شفيعًا لي وأنا أروي الخبر، وأسرد النبأ؟

أم أن الأجيال القادمة لن تغفر لنا شيئًا، ولن ترحم منا ضعفًا، ولن تقبل لنا عذرًا؟!

لا أعرف لماذا أشعر بأحدهم الآن يحادثني بل يجلدني وهو يقول لي:

هل كنتم تنامون

هل كنتم تأكلون وتشربون؟

هل كنتم تغدون وتروحون؟

ويا ويلي ماذا به لو عرف أننا كنا نلهو ونضحك.. ونتسامر ونسهر.. ونخوض ونلعب؟!

إيهٍ يا بن الأثير.. كأني بك اليوم تبكيني فأرى حالك حالي وهمك همي، حينما جَرَت في أيامك بشائع التتار، ومذابح المسلمين التي صارت يومها أنهارًا مدرارًا.. وكلما أتيت على روايتك وأنينك في وصفك لهذه الأهاويل، يخيل إلي أنك عنيتنا اليوم بها وقصدتنا بهمها.

يقول رحمه الله: “ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة ذكر خروج التتر إلى بلاد الإسلام لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها كارها لذكرها فأنا أقدم إليه [رجلا] وأؤخر أخرى فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك فيا ليت أمي لم تلدني ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعًا فنقول هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقت الأيام والليالي عن مثلها عمت الخلائق وخصت المسلمين فلو قال قائل إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.”

له الله ابن الأثير، فلقد عاش حتى رأى النصر والظفر، ورأى من محى عار الهزيمة، وأزاح الذل والنكران، فكيف حالنا اليوم، هل في قدر الله لنا أن نرى نصرًا وعزًا، أم أن عصر الذلة وزمن الهوان لا نهار له؟!

حاتم سلامة

كاتب وصحفي مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى