د. أسامة الأشقر يكتب: ميزان الشماتة!
سألني بعض الفضلاء عن موجة الشماتة التي تجتاح وسائط التواصل في هذه الأيام وكيف ينبغي التعامل معها وتقدير الحال فيها، فكتبتُ له:
1- الشماتة أن يفرح المرء ببليّة تصيب فرداً أو جماعة؛ وهذا الخلق موقفٌ فيه توحّشٌ نفسيٌّ في أصله، والنظر إليه يكون باعتبار أركانه وجهاته، فقد يكون خلقاً بغيضاً مكروهاً، وقد يكون مطلوباً مرغوباً، وقد يكون متردداً إذا داخلته الفتنة واختلف فيه تقدير المصلحة.
2- فالشماتة في وجهٍ هي بغْيٌ وعدوان قوليّ على أعراض المسلمين وخصوصياتهم وأمنهم الاجتماعي؛ وهي ناتج من نواتج البغضاء أو الحسد؛ وهي لؤمٌ في أصل الطبع والتركيب النفسي؛ لذلك فإن أكثر من يستخدمها هم الأعداء في الحروب المستعرة؛ وهو ما رأيناه من استعاذة النبي صلوات ربي وسلامه عليه من شماتة الأعداء، فشماتة الأعداء مما ينكأ القلب، وتبلغ به النفس أشد مبلغ؛ وقد قال هارون لأخيه موسى عليهما السلام: «ولا تشمت بي الأعداء”، أي لا تفرحهم بما تصيبني به؛ والعدو هو كل من ساءه ما يفرحكَ أو أفرحه ما يصيبك من شر.
3- ولك أن تتخيّل أن تصيب إنساناً مصيبة تكسره فيفرح لها هذا الشخص؛ أو يراه واقعاً في ذنب عظيم فيفرح لوقوعه فيه؛ ولذلك قرر العلماء أن الشماتة بمصائب المسلمين من كبائر الذنوب الموجبة لتوبة صادقة، بل إن بعضهم جعل الفرحَ المجهور به بالمصائب العظيمة أو الكوارث الكبيرة التي تلحق بالمسلمين في الجملة أو الخصوص من أنواع الكفر المخرج من الملة لأن ذلك يعطي الدليل على تمكّن الكراهية في نفسه من أهل الإسلام، ولا تكون نفسٌ بهذا الشعور إلا نفساً منافِقة.
4- وقد جاء النهي واضحاً وصريحاً عن الشماتة بمصائب المسلمين بدليل ما أخرجه الترمذي من حديث واثلة بن الأسقع عن النبي عليه الصلاة والسلام، قال: «لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك»؛ وفي رواية للترمذي مرفوعا: [من عيّر أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله]. قال الإمام أحمد في تفسير الذنب إنه الذنب الذي قد تاب منه.
5- لكن للشماتة وجهاً آخر تكون فيه مباحة بل ومأموراُ بها أيضاً كالشماتة بمصيبة الغادر والظالم والعدو المتجبّر؛ فإن الشماتة بهم تشفي صدور المظلومين والضحايا؛ وتعطي العبرة لمن يقع في أعراض الناس ويؤذي مشاعرهم بلا مبرر ؛ وقديماً قالوا: إن لكل عاثر راحماً إلا الغادر، فإن القلوب مجمعة على الشماتة بمصرعه ؛ ولذلك أَفْتَى سلطان العلماء العز العزّ ابن عبد السلام أنّه لا مَلام بالفرح بموت العدوّ ومن حيث انقطاعُ شرّه عنه وكفايةُ ضرره؛ بل تكون الشماتة مأموراً بها إذا لم يقدر المرء على إنكار المنكر الجليّ بيده أو لسانه المؤثر المسموع له ؛ وتكون واجبة أيضاً عند الدفاع عن أعراض المسلمين كما فعل حسان بن ثابت بالشماتة من قتلى قريش وساداتها يوم بدر في أشعاره الكاوية ؛ لما في ذلك من إغاظة الأعداء وإحراق نفوسهم ؛ ولهذا كله ذكر الله فرح المؤمنين بنصر الله رغم أن في إظهار هذا الفرح شماتة بالمهزوم المنكسر.
إن المصائبَ تنتهي أوقاتُها *** وشماتةُ الأعداءِ بالمرصادِ
6- وهذه الشماتة الواجبة أو المستحبّة ليست مفتوحة، بل هي مقدرة بقدرها لأن الشماتة هي تنفيس علاجيّ يرمم النفوس المقهورة، ويستعيد الشعور بجرحها فلا يتعاطى مع أسبابها، وهي ليست أداة ووسيلة للتغيير أو الإصلاح، لأنّ مركب المقت والحقد فيها ينطوي على تعديلات نفسية خطيرة تبيح للمرء أن يقهر ويظلم ويتجاوز ويستحلّ ويعم بالشر تحت تبرير نفسيّ قويّ؛ كما أن الانفتاح فيها قد يؤدي إلى خلل التوازن في تقدير الأشياء ووزنها لاسيما في الخطوب الكبيرة التي تختلط فيها الأشياء الصالحة والطالحة، وتتعقد فيها الخطوط القريبة والبعيدة، وتتداخل فيها المصالح والمفاسد.
7- ولهذا ننصح ذوي الرأي المعتبر في سلّم القيادة والتأثير دائماً أن يضبطوا ميزانهم على تقدير المصالح القريبة والمتوسطة والبعيدة، وليس على جموح النفس وغضبها والانسياق وراء ثورة الغضب المحبوس لدى الجمهور المظلوم واتجاهاته غير المحسوبة، ولا يعني هذا أن يغيّروا ما بأنفسهم من مشاعر غضب صادقة وحزن محفور في العمق، وهو أمر عسير حقّاً، لكن لا مناص من النصيحة به في الفتن خاصّة، وعند اختلاف الرأي بين الصالحين في تقدير حظ الشماتة وسهمها وتأثيرها على مصالح كل قوم أو قُطر أو ظرف، لاسيما إذا كان ثمة اشتراك بين الشماتة الواجبة بعدوّ ما يستفيد منها عدوّ آخر متربّص يستفيد منها في حربنا أجمعين، فندخل في مفهوم شماتة الأعداء التي تعوّذ رسولُ الله منها.