بحوث ودراسات

د. علي السباعي يكتب: الطريق إلى الله (3)

فإذا نزل بك الضر، وأصابتك مصيبة، واعتلاك الهمّ، وأحاط بك الحزن من كل مكان، وضاقت عليك الأرض بما رحبت، فما عليك إلا أن ترمي بنفسك بين يدي ربك الرحيم الغفور(1)، واعلم علم اليقين أنّ من أعظم ما يستدفع به البأس والبلاء والشدة والضراء هو الدخول على الله من هذا الباب العظيم، وهو من مقاصد البلاء في هذه الدنيا، قال الله تعالى (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون) (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا). فعليك بالتوبة وكثرة الاستغفار والتضرع والصلاة والسجود والدعاء بأن يدفع الله عنك الضر والشدة والبأساء، وإياك ثم إياك أن يلتفت قلبك إلى غير ربك جل في علاه، فإن فعلت ذلك فإنه من تمام نعمة الله عليك، وهو مقام عظيم يُرضي الرب جل جلاله بل يُفرحه.

وإياك أن يخطر ببالك أخي الكريم أنّ هذا الكلام موجه لعصاة المسلمين ومن أسرف على نفسه وحدهم، وأنّ الدعاة والزهاد والعُبّاد والصالحين والعلماء والمجاهدين فهم ليسوا بحاجة إلى هذا، فإذا وقع في نفسك هذا فعليك أن تستغفر الله منه، فإنّ الله في أعظم مقامات العبادة أمر عباده المؤمنين بالاستغفار والتوبة، فأمر الله المتهجدين بالليل بالاستغفار بالأسحار، ورغبنا بعد صلاة الفريضة بالاستغفار ثلاثا، وبعد الفراغ من الوضوء رغبنا رسول الله في أن نقول «اللهم اجعلني من التوابين»، وبعد الإفاضة من مِنى في الحج قال «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

وهذا ظاهر في كتاب الله لا يخفى، بل إنّ ابن عمر رضي الله عنهما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول «أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه في المجلس قبل أن يقوم مائة مرة».

رواه النسائي وصححه الحافظ ابن حجر.

وهو صلوات الله وسلامه عليه إمام المتقين وسيد المرسلين. بل إنّ الله أمره في سورة النصر بعد فتح مكة وبعد أن بلغ الرسالة وأدّى الأمانة، أن يُسبّح الله ويستغفره إنه كان توابا، وهو الذي ذاق ألوانا من العذاب في ذات الله، وقام من الليل حتى تفطّرت قدماه، ويأتي الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين ولا يوقد في بيته الشريف النار، وأخرجه قومه من مكة وهي أحب البقاع إليه، وكسرت رباعيته وسال دمه الشريف على جبهته، وقُتل عمه ومُثل به، وعُقر سبعون من أصحابه تحت سفح الجبل، واتهم في عرضه زورا وبهتانا، وجاهد في الله حق جهاده، ولم يبدل ولم يغير حتى أظهر الله على يديه الدين ورفع به راية التوحيد، ومع ذلك يأمره ربه بالاستغفار في نهاية حياته وبعد هذا العطاء والجهاد الطويل!، وقد كانت عائشة رضي الله عنها تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في آخر أمره من قول: «سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه..».

وهذا المقام لم نوفه حقه، أعني مقام عبودية الذنب والخطيئة و التوبة والاستغفار، وسأعود إليه في المقالات القادمة إن شاء الله. سنبدأ بحول الله وقوته من المقال القادم الحديث عن التعامل مع المصائب والأحزان والآلام والإجابة على ما يدور حول هذا الموضوع من أسئلة وشبهات وشكوك وظنون!، فنسأله سبحانه التوفيق والسداد.

لماذا هذه الشرور في هذا العالم؟ لماذا هذه الأحزان؟ لماذا هذه الكوارث؟ لماذا هذه الحروب؟ لماذا هذا الفقر؟ لماذا هذا الجوع؟ لماذا هذه الأمراض والأوجاع؟ لماذا هذه الدماء؟ لماذا هذه الضحايا؟ لماذا هذه الانتهاكات؟ لماذا هذا البؤس؟ لماذا هذه الآلام؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟.

أين هو هذا الرب الرحيم الكريم الذي تحدثوننا عنه؟ يتساؤل الملحدون؟ (وناقل الكفر ليس بكافر).

وإن شئتَ أن تقول أنها تساؤلات في نفوس كثير من المسلمين فلن أخالفك!، وإن كان كثير من المسلمين لا يجرؤ على إظهار هذه التساؤلات، لكنها كامنة في النفوس تخرج على هيئات وأشكال أخرى:

علاش؟.. ليش؟.. شن درت تحت ربي؟.. خيرني أنا من دون الناس؟

علاش أنا عايش عيشة مرمدة وفلان وفلان يتقلبون في النعيم؟

علاش ولدي مُعاق من دون الناس؟

شن ذنب بنتي عمرها ست سنوات وتعاني من السرطان؟ شن دارت تحت ربي؟

ليش ربي حرمني من الأولاد من دون الناس؟

علاش فلان أولاده متنعمين وأنا واحد مخطوف وواحد مريض وواحد مقتول؟

دعونا الله.. تصدقنا.. صلينا.. صمنا.. قمنا الليل.. حجينا… اعتمرنا… ما فيش فائدة!! ماتت بنتي في النهاية.. ومازال ابني مخطوف.. وما تغير شيء … إلخ. أليست هذه التساؤلات ـ وأشباهها ـ موجودة بين الناس؟ وتسمعونها تارة تصريحا، وتارات تلميحا وتعريضا؟

يقول ابن القيم في كتابه زاد المعاد «فأكثر الخلق بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله ولسان حاله يقول: ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره، ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها رأى ذلك فيها كامنا كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشته لرأيت عنده تعتبا على القدر وملامة له واقتراحا عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك ؟». انتهى.

فنتج عن هذه التساؤلات، الكفر والنفاق والزندقة والشك والإلحاد والتذبذب والتردد والله المستعان، فهي أسئلة يجب أن تكون محط اهتمام الدعاة والعلماء والخطباء والأئمة، للإجابة عليها في خطبهم ومحاضراتهم وندواتهم، لاسيما وقد انتشرت وعمّت بها البلوى عبر القنوات ومواقع التواصل الاجتماعي.

وأنا أطمئن القارئ الكريم بأن لا يظنن بربه إلا خيرا، وأن هذه التساؤولات ناتجة عن جهلنا بربنا الكريم جل في علاه ليس إلا، كما سنبينه بالتفصيل إن شاء الله في المقالات القادمة.

الله خالق كل شئ وهو المالك = الحقيقي لكل شئ، هذه حقيقة لم يختلف حولها عقلاء الناس (مسلمهم وكافرهم). قال الله تعالى عن المشركين (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون). فكل ما تراه حولك، وما لا تراه، فهو ملك لله جل في علاه، ولسنا بحاجة للإسهاب في هذه القضية التي يؤمن بها أبوجهل وأبولهب وصناديد قريش. لكن هذا الكلام العام يحمل في ثناياه حقيقة يغفل عنها كثير من الناس، وبيانها كالتالي:

أولا: كل ما أنت فيه من النّعم فهو في الحقيقة ليس لك، إنما هو مُلك لله، بدأ من نفسك التي بين جنبيك ومرورا بأبنائك وزوجتك وصحتك وعافيتك ومالك وبيتك ومزرعتك وانتهاء إلى كل شئ!. فنفسك مستودعة عندك من «مالكها = الله»، وبناء على ذلك لا يجوز لك أن تتصرف فيها إلا وفق ما يريد «مالكها = الله»، فلو أنك آذيت نفسك بأي نوع من أنواع الأذى فأنت مُعرّض للعذاب من «مالكها = الله». ثبت في الصحيحين أن رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قال: “مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدا فِيهَا أَبَدا. وَمَنْ شَرِبَ سَمّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدا مُخَلَّدا فِيهَا أَبَدا. وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدا مُخَلَّدا فِيهَا أَبَدا”. وأما زوجتك، فلو أنك شتمتَ الله أو ارتكبتَ ناقضا من نواقض الإسلام، لوجب عليها تركك والابتعاد عنك، ولم تعد تحِل لك إلا إذا تبت إلى «المالك = الله»، واتبعت أوامره. وأما بنتك، فلو جاءك ابن أخيك وهو أحب الناس إليك يخطبها فلا يجوز أن تزوجها له ما لم يكن مؤمنا بدين «المالك = الله». وهكذا وجب عليك اتباع أحكام الله في المال الذي بين يديك والمزارع وهلم جرا.

فأنت لا تملك شيئا على الإطلاق، و كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «والله المُعطي وأنا القاسم” كما في البخاري، وقد كان هذا المفهوم شائعا بين المؤمنين في زمن الإيمان والتقوى، فقد ثبت في صحيح البخاري أنّ ابنا لأبي طلحة مات، فقالت أم سُليم ـ ام الولد ـ لزوجها: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قومًا أعارُوا عاريتَهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم، أَلَهُم أنْ يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسِب ابنك.». أي قالت له بالليبي «يا أبا طلحة لو جيراننا سلفونا طنجرة ولا كسكاس يومين، وثالث يوم قالونا ردونا الكسكاس متعنا، هل نقدروا انقلولهم لا ما ناش عاطينكم الكسكاس متعكم؟ فقال لها أبو طلحة لا كيف ميصيرش هكي عيب!. فقالت له زوجته أمالا ولدك اللي عاطيهولك «المالك = الله»، راهو خذاه منك توا واحتسب أجرك على الله».

ثانيا: حتى المشاعر والأحاسيس التي يشعر بها الإنسان هي هبة من الله وعطاء من الوّهاب، فما تجده الأم ـ مثلا ـ تجاه أبنائها من حنان ورحمة ومحبة، هو محض عطاء من الله، ولو شاء لنزعه منها فصارت كالصخرة الصماء لا تحس ولا تشعر. فقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال «دخل عيينة بن حصن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه يقبل الحسن والحسين فقال: أتقبلهما يا رسول الله؟ إن لي عشرة فما قبلت أحدا منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أوأملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟».

فخلاصة القول: أننا لا نملك شيئا، فكل ما هو فينا وحولنا هو ملك لله، ومعلوم لكل ذي لبٍّ، أنّ المالك يفعل في ملكه ما يشاء، وليس لأحد أن يقول له، لماذا فعلتَ في ملككَ كذا؟ ولما لم تفعل كذَا؟

تأمل وتفكر أخي الكريم.. وألقاك في المقال القادم إن شاء الله.

هوامش

1ـ الأصل في العبد المؤمن أن لا يكون غافلا عن هذا الباب في السراء أيضا، وسيأتي الحديث عن هذه القضية في قابل المقالات ان شاء الله.

ملاحظة: هذه السلسلة من المقالات تسعى للإجابة على أسئلة خطيرة تتعلق بصفات الله وأسمائه وأحكامه وقدره وتدبيره في خلقه، فلا يصلح إلا قراءتها مرتبة من أول مقال إلى آخر مقال فيها.

د. علي السباعي

كاتب وباحث أكاديمي ليبي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights