بحوث ودراسات

د. حلمي الفقي يكتب: وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ

الإسلام دين العزة والكرامة والحرية والعدل والمساواة، ولقد أرسل الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لتحقيق هذه المبادئ العظيمة للبشرية كلها وليس للمسلمين وحدهم، ولكن دون تحقيق هذه الغاية عقبات كؤود، وصعاب ضخام، وفتن والاعيب، وأحقاد وأطماع، لا يسلم منها جيل، ويعرفها الكبير والصغير.

والإسلام حرم ظلم الإنسان والحيوان، وقد يتوهم إنسان أن الإسلام حرم ظلم المسلم، وأباح ظلم غير المسلم، وهذا خطأ قاتل، لأن ظلم غير المسلم حرام كحرمة ظلم المسلم، بل أكثر من ذلك، إن دين الإسلام يوجب على المسلم الدفاع عن المظلوم ولو كان الجاني مسلما، والمجني عليه غير مسلم، فإذا قُتِل المسلم وهو في حالة دفاع عن غير المسلم كان شهيدا، حتى لو كان القاتل مسلما، فهل رأيتم دينا يقتل أبنائه الظالمين من أجل أعدائه المظلومين.

ومن أجل تحقيق العدل في الأرض، ومحاربة الظلم والبغي والعدوان شرع الإسلام الجهاد، بل جعله الرسول صلى الله عليه وسلم ذروة سنام الإسلام لما قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: (رَأسُ الأَمرِ الإِسلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِروَةُ سَنَامِهِ الجِهَاد) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة، بل عَدَّه بعض السلف ركنا سادسا من أركان الإسلام.

والجهاد يكون بالنفس ويكون بالمال ويكون باللسان، وفى مقالنا هذا سنسلط الضوء على الجهاد بالمال، ولماذا قدمه القران الكريم على الجهاد بالنفس؟

ونقول: لقد جاء الأمر بالجهاد في القرآن الكريم في أكثر من ثلاثين موضعا، منها عشرة آيات ورد الأمر فيها بالجهاد بالنفس والمال، منها واحدة فقط تقدم فيها الجهاد بالنفس على الجهاد بالمال، وهى قوله تعالى:   {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} (التوبة: 111)

وفى المواضع التسع الباقية تقدم فيها الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، وهذه المواضع هي:  

1- (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا). (النساء: 95)

2- (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهَ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض). (الأنفال: 72)

3- (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُون). (التوبة: 20)

4- (انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُم تعلمون). (التوبة: 41)

5- (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّه عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِين). (التوبة: 44)

6- (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهَ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّه). (التوبة: 81)

7- (لَكِنَّ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون). (التوبة: 88)

8- (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون). (الحجرات: 15)

9- (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُون). (الصف: 11)

وجاء في السُّنة النبوية أيضا تقديم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس:

عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «جَاهِدُوا الـمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ».  أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والدارمي.

فما الحكمة في تقديم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس؟

قال ابن القيم، رحمه الله، في كتابه الفوائد، في حكمة تقديم المال على النفس:

«أولاً: هذا دليل على وجوب الجهاد بالمال كما يجب بالنفس، فإذا دهم العدو وجب على القادر الخروج بنفسه، فإن كان عاجزاً وجب عليه أن يكتري بماله.

ومن تأمَّل أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته في أصحابه، رضي الله عنهم، وأَمْرَهم بإخراج أموالهم في الجهاد، قطع بصحة هذا القول. والمقصود: تقديم المال في الذكر، وأن ذلك مشعِرٌ بإنكارِ وَهْمِ مَنْ يتوهم أن العاجز بنفسه إذا كان قادراً على أن يغزو بماله لا يجب عليه شيء؛ فحيث ذكر الجهاد قدَّم ذكر المال؛ فكيف يقال: لا يجيب به؟

ولو قيل: إن وجوبه بالمال أعظم وأقوى من وجوبه بالنفس، لكان هذا القول أصحَّ من قول من قال: لا يجب بالمال، وهذا بَيِّن، وعلى هذا فتظهر الفائدة في تقديمه في الذكر.

وفائدة ثانية: على تقدير عدم الوجوب؛ وهي أن المال محبوب النفس ومعشوقها التي تبذل ذاتَها في تحصيله وترتكب الأخطار وتتعرض للموت في طلبه، وهذا يدل على أنه هو محبوبها ومعشوقها، فندب الله – تعالى – محبِّيه المجاهدين في سبيله إلى بذل معشوقهم ومحبوبهم في مرضاته؛ فإن المقصود أن يكون الله هو أحب شيء إليهم، ولا يكون في الوجود شيء أحبَّ إليهم منه، فإذا بذلوا محبوبهم في حبه نقلهم إلى مرتبة أخرى أكمل منها؛ وهي بذل نفوسهم له؛ فهذا غاية الحب؛ فإن الإنسان لا شيء أحبَّ إليه من نفسه، فإذا أحب شيئاً بذل له محبوبه من نفسه وماله، فإذا آل الأمر إلى بَذْلِ نفسه ضنَّ بنفسه وآثرها على محبوبه.

هذا هو الغالب وهو مقتضى الطبيعة الحيوانية والإنسانية؛ ولهذا يدافع الرجل عن ماله وأهله وولده فإذا أحس بالمغلوبية والوصول إلى مهجته ونفسه فرَّ وتركهم، فلم يرضَ الله من محبيه بهذا، بل أمرهم أن يبذلوا له نفوسهم بعد أن بذلوا له محبوباتهم. وأيضاً فبذل النفس آخر المراتب؛ فإن العبد يبذل ماله أولاً يقي به نفسه، فإذا لم يبقَ له ماله بذل نفسه؛ فكان تقديم المال على النفس في الجهاد مطابقاً للواقع.

وأما قوله تعالى : {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم} [التوبة: ١١١]، فكان تقديم الأنفس هو الأَوْلَى؛ لأنها هي المشتراة في الحقيقة، وهي مورد العقد، وهي السلعة التي استلمها ربها وطلب شراءها لنفسه، وجعل ثمن هذا العقد رضاه وجنَّته، فكانت هي المقصودة بعقد الشراء. والأموال تَبَع لها فإذا مَلَكها مشتريها ملك مالها؛ فإن العبد وما يملكه لسيده، ليس له فيه شيء؛ فالمالك الحق إذا ملك النفس ملك أموالها ومتعلقاتها».

وقال الشنقيطي -رحمه الله- في تفسيره أضواء البيان: «وحقيقة الجهاد بَذْلُ الجهد والطاقة، والمال هو عصب الحرب، وهو مدد الجيش، وهو أهم من الجهاد بالسلاح؛ فبالمال يُشتَرَى السلاح، وقد تُستَأجَر الرجال؛ كما في الجيوش الحديثة من الفِرَق الأجنبية، وبالمال يجهَّز الجيش؛ ولذا لما جاء الإذن بالجهاد أعذر الله المرضى والضعفاء، وأعذر معهم الفقراء الذين لا يستطيعون تجهيز أنفسهم، وأعذر معهم الرسـولَ صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يوجد عنده مـا يجهزهم به؛ كما في قوله – تعالى -: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْـمَرْضَى} [التوبة: 91]، إلى قوله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة: 92].

وكذلك من جانب آخر: قد يجاهد بالمال من لا يستطيع بالسلاح كالنساء والضعفاء، كما ورد عن زيد بن خَالِدٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: «مَنْ جَهَّزَ غَازِياً فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِياً فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا» متفق عليه.

 ولعل السر في تقديم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس ما يلي:

1- أن النفس الإنسانية تحب المال حبا شديدا، كما في قوله تعالى: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمَّا) (الفجر: 20)، وتبذل في سبيل تحصيله الغالي والرخيص، وفى بذل المال في سبيل الله جهاد شديد للنفس، والله عز وجل يحب من المؤمن أن يكون حبه لله عز وجل، أشد من حبه لنفسه وماله وولده والناس أجمعين.

2- في الخروج للجهاد بالنفس فرصة للعود سالما، وأحيانا غانما إلى أهله، وفى بذل المال فى سبيل الله لا توجد فرصة لعود المال إلى صاحبه، ولا توجد فرصة لتعويض ما بذل عوضا ماديا دنيويا.

3- الجهاد بالنفس يحتاج إلى عدة وعتاد وسلاح، ولا بد للمجاهد من سلاح وذخيرة ومؤنة، ولا بد من نفقة للمجاهد ولزوجه ولولده، ولكل من يعولهم، ولذا جاء في الحديث: «مَنْ جَهَّزَ غَازِياً فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِياً فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فقد غزا» متفق عليه.

4- الجهاد في سبيل الله يحتاج إلى دعم معنوي وإعلامي، يبصر الأمة والعالم بقضية المجاهدين العادلة، حتى يكسب الرأي العام المحلى والإقليمي والدولي، وفى هذا دفعة معنوية هائلة لأصحاب الحق،

5- الجهاد في سبيل الله ليس قاصرا على الجهاد بالنفس، بل الجهاد في سبيل الله يشمل مجالات كثيرة، والجهاد في سبيل الله يتأتى بكل وسيلة، فالمجاهد في الميدان والأمة من خلفه توفر له ولأهله ولقضيته، كل دعم ممكن في أي مجال يخطر على البال، أو حتى المجالات الجديدة المبتكرة، من وسائل التجسس والحرب النفسية، والتكنولوجيا الحديثة التي توفر للجهاد خدمات تفوق الخيال.

6- الجهاد بالمال يتيح الفرصة لكل أبناء الأمة للمشاركة في الجهاد، بما في ذلك الشيوخ والمرضى والنساء، وكل أصحاب الأعذار الذين يطوقون للجهاد وحالت ظروفهم دون هذا الشرف العظيم، وما أروع ما ذكره الإمام الألوسي رحمه الله في تفسيره: (لعل تقديم الأموال على الأنفس لِـمَا أن المجاهدة بالأموال أكثر وقوعاً، وأتم دفعاً للحاجة؛ فلا يُتصَوَر المجاهدة بالنفس بلا مجاهدة بالمال).

وأخيرا:

الجهاد بالمال مشاركة من كل أبناء الأمة، ومختلف قطاعاتها للمجاهدين في الميدان، وفى ذلك توحيد للأمة في مجاهدة عدوها، ومشاركة من الجميع في تحقيق النصر، حتى يتحقق في المسلمين انهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.

كما أن دعم المجاهد والتكفل بأسرته ليس منحة ولا هبة من المجتمع، بل هو فرض على الأمة، وحق للمجاهد، لا منة فيه لأحد، لأن من حمل روحه على كفه، وخاض غمار المعركة، وولج أتون الحرب من أجل أمته ففريضة واجبة على الأمة أن تقوم بواجبها المادي والمعنوي تجاه المجاهدين وأهلهم.

د. حلمي الفقي

أستاذ الفقه والسياسة الشرعية المشارك بجامعة الأزهر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى