الأحد يوليو 7, 2024
بحوث ودراسات

د. محمد أكرم الندوي يكتب: الإمام الفراهي والنحو العربي

كان العلامة الإمام حميد الدين الفراهي (1280-1349هـ) رحمه الله من نوابغ الدهر علما وعقلا، وفهما وفضلا، لم تشهد الدنيا بعد شيخ الإسلام الإمام أبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية رحمه الله مثله في تدبر كتاب الله العزيز، واستنباط أحكامه وحكمه، واستخراج جواهره ودرره، وكان من حبه للقرآن الكريم أنه وقف نفسه لخدمته بحثا وتحقيقا، وكتابة وتأليفا، لم يلحقه أحد من بعده، وللحديث عن ذلك موضع آخر.

ومما نفعه في تفقهه للقرآن الكريم هو تمكنه من اللغة العربية مفرداتها، وأساليبها، وبلاغتها، محبا لها ومعجبا بها أيما إعجاب، وهو بحرها الذي لا تكدره الدلاء، واعترف العلماء العرب والعجم بإحرازه قصب السبق في هذا المجال وذوقه البياني المرهف، زاره علامة العربية وأديبها الدكتور تقي الدين الهلالي فكتب عنه: «والرجل فصيح في التكلم لغاية، نادر في علماء العرب فضلا عن علماء الهند… سمعت منه خطبة تفسيره للقرآن، اغرورقت منها عيناي لفصاحتها وحقيتها، ماهر في الإنجليزية والعربية والفارسية والأردية، وبالجملة فهو أعلم من لقيته قبل هذا الحين، وهو 17 رمضان 1342هـ» (مجلة الضياء، المجلد الثاني، العدد السابع، ص 260).

وكان رحمه الله ذا عقل حر متطلع، وذكاء قوي، وهمة عالية، ومنزع علمي، بعيدا كل البعد عن التزمت الفكري، والجمود والتقليد، فما من علم أو فن كتب عنه إلا وكلامه ينبئ عن بلوغه رتبة الاجتهاد فيه، كان شيخنا العلامة الدراكة أبو صهيب شهباز الإصلاحي رحمه الله يقول: لقد حقق مولانا الفراهي كل موضوع عالجه، حتى النحو والصرف، فإنه لم يقلد في بيان مسائلهما وطرحها وترتيبها غيره من المصنفين.

ومما ألفه في النحو بالعربية: (دلائل إلى النحو الجديد والمعاني والعروض والبلاغة)، و(الدر النضيد في النحو الجديد)، وهما غير مطبوعين.

ومما ألفه في النحو بالأردية: (تحفة الإعراب) منظومة، و(أسباق النحو) الجزء الأول في النحو، و(أسباق النحو) الجزء الثاني في الصرف، والكتب الثلاثة طبعت مرارا، ووسأفرد مقالات للتعريف بها.

وأسرد هنا أمثلة تشهد بإمامته في النحو، فمثلا قوله تعالى: «غير المغضوب عليهم»، قال في كتابه (تفسير سورة الفاتحة): في إعرابه اختلافات، ولعل فيه أسلوبا خاصا للنفي، وأصله: لا تهدنا صراط الذين غضب عليهم، وهو بدل من الموصول، كما قال تعالى: {ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة}، فإنه معطوف على قوله {الذين جاهدوا منكم}. (سورة التوبة الآية 16).

وقال في قوله تعالى في سورة البقرة «هدى للمتقين»: حال من الإشارة (أي ذلك)، وهو كثير، كما قال تعالى: «وهذا صراط ربك مستقيما» (سورة الأنعام الآية 126).

قال الله تعالى: {وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين} (سورة القصص الآية 58)، يقول الفراهي: «معيشتها»: قال الرازي رحمه الله معناه: من معيشتها، أو أيا معيشتها، أو «بطرت» بمعنى: كفرت. وعندي «معيشتها» مفعول «أهلكنا»

وقال الفراهي مرة أخرى: «معيشتها» بدل من «قرية» ومنصوب على المحل، ويؤيده ما قبله، فإن معيشة أهل مكة إنما كانت من إجابة دعاء إبراهيم عليه السلام وقد خالفوا غرض إسكانه إياهم، فشركهم أولى بالخوف من اتباعهم الهدى.

وقال مرة ثالثة: «معيشتها» بدل من «قرية» ومنصوب على المحل، وقوله «فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا» يؤيد ذلك ويؤيد ما قبله، فإن معيشة أهل مكة كانت من إجابة دعوة إبراهيم عليه السلام، وهكذا قال في أهل سبأ.

(تعليقات 2/40-41).

وقال تعالى: {قد أنزل الله إليكم ذكرا، رسولا يتلو عليكم آيات الله} (سورة الطلاق 10-11)، قال الفراهي: «فههنا رجحوا من الاحتمالات ما لم يحتاجوا فيه إلى تقدير»، ونقل أقوالا ذكرها البيضاوي في تفسيره، ثم قال: «وذلك لمحض أنهم ظنوا أن الحذف ضعف في الكلام، ولم يعلموا أن الأمر خلاف ذلك، فقد بني كلام العرب على الإيجاز وكثر فيه الحذف فلا معنى للتحاشي عنه، وأما ما جمع من الأقوال في هذا المقام ففيه مثال واضح للطريق الذي يسد عن معرفة المراد» (أساليب القرآن 78).

وقال الفراهي في تفسير هذه الآية في (تعليقات 2/360-361): «رسولا»: أي أرسل رسولا، وهذا البدل مثل ما جاء في القرآن {ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين، من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين} (سورة الدخان 30-31) فجعل فرعون بدلا من العذاب كأنه نفس العذاب.

ومن الحروف المشكلة في الاستعمال في القرآن الكريم وكلام العرب حرف «أنْ»، ولم أر أحدا استوفى معانيه كما استوفى الفراهي، وهو كلام طويل في كتابه (مفردات القرآن) أنقله هنا لأنه يلقي بعض الضوء على إمامته في العربية،

يقول: «أن»: لها استعمالات:

1- تقدر قبلها لام العلة: {أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين}، أيضا {كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} أي لأن رآه استغنى، أيضا {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}، أيضا {يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} أي لأن تؤمنوا، أيضا {ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون} والعلة تراعى وجودا وعدما، كقول عمرو: «فعجلنا القرى أن تشتمونا» أي لشتمكم، ومعناه: لئلا تشتمونا، كما تقول: هذا دواء للحمى، أي لدفع الحمى، ومنه قوله تعالى: {يبين الله لكم أن تضلوا} لحاظا لضلالتكم، أي لكيلا تضلوا، وكذلك: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير}، وكذلك {وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت}، أيضا {وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم}، أيضا {وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم}، ودل القرآن على تضمن النفي حيث جاء: {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم}، فلولا تضمنت «أن» نفيا لما اتبعت بالنفي، وكذلك {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا}، فلولا تضمنت نفيا لما أتبعت بقوله «أبدا».

2- و«عن» الجارة: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم}، وأيضا {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم}، أيضا {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا}، أيضا {قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله}، أيضا {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم} الآية.

3- «من»: «بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم» أي عجبوا من أن…

4- وباء الجر: «والله أحق أن تخشاه»، وأيضا: «ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين».

5- و«على»: {ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا} أي على أن تعتدوا، كما قال تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا}، أيضا {ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم}.

6- «أن» تأتي للبيان، كقوله تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام}، أيضا {وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون}، فإن أردت قدرت «بأن صدوكم»، أيضا، و«حزنا على ألا يجدوا»، ولعل منه {ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم}.

7- يقدر قبلها أيضا ما هي بيانه، مثلا: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا} أي قائلا وآمرا أن لا تشرك أو بأن لا تشرك، أيضا {قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء} أي تأمرك بأن تقول لنا أو تأمرنا أن…، ولعل منه {قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} أي وأمرك أن لا تسجد، ولعل منه {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم} الآية، أي وتخافون، أو مخافة أن.

Please follow and like us:
د. محمد أكرم الندوي
عالم ومحدث، من أهل جونفور الواقعة ضمن ولاية أتر برديش الهندية. وباحث في مركز أوكسفورد للدراسات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب