د. محمد الصغير يكتب: ليلة الإفراج عن الدكتور يحيى القزاز
مات فجأة الصعيدي العنيد، والمناضل العتيد الدكتور يحيى القزاز، أستاذ الجيولوجيا بجامعة حلوان، المولود في 4 مايو 1956م في قرية البراهمة، مركز قفط بمحافظة قنا في جنوب مصر، وكان قد كتب قبل أسابيع من وفاته بيانا طالب فيه النظام المصري باعتقاله مرة أخرى، بدلا من التنكيل بأسرته، ومنع زوجته من السفر للحج والعمرة، وقال: أنا على قناعة تامة بآرائي ولكن لا أحب أن تدفع أسرتي ثمن معارضتي. وكتبت معلقا على بيانه، ومعلنا خوفي عليه من مصير صنوه وسميه المهندس يحيى حسين عبد الهادي، الذي أعيد اعتقاله بالفعل، لكن الله اختار للقزاز الرفيق الأعلى، ومغادرة هموم الدنيا وآلامها، تاركا لهم مغبة مظلمته، ومظالم آلاف آخرين ممن تعج بهم السجون، في أوضاع لا تقل عن حال سجناء صيدنايا، الذين تابعهم العالم كما يتابع أفلام الرعب.
من بعيد:
لا تربطني بالفقيد -رحمه الله- علاقة مباشرة أو معرفة خاصة، لكني أتابع ما يكتبه باهتمام، وأعلق له مشفقا عليه من صراحة النقد وقوته، واستخدام لغة المعارضة المباشرة، وكتبت بذلك أيضا إلى المهندس يحيى حسين عبد الهادي من باب الحفاظ عليه، ولا سيما أن الجرائم المنسوبة إليه كلها عن منشورات رأي لا يطالعها إلا النزر اليسير، فكان جوابه: إني أكتب لأبقى محتفظا باحترامي لنفسي!
لذا كنت أتحسر على عدم معرفتي بالرجلين عن قرب، وكانت من أمنياتي المؤجلة، زيارة كل يحيى منهما في بيته، وجعلها من لوازم العهد الجديد، لأنني حرت كثيرا في أمر الرجلين، وسألت مقربين منهما عن سر تلك الصلابة، وسبب المعارضة بلا هوادة، والتصدي لكلمة الحق مع العلم بفداحة الثمن، والإصرار على الدفاع عن المقدرات والثوابت الوطنية إلى آخر نفس، وعدم المبالاة بالسجن، مع ما ينعمان به من منصب مرموق، ومكانة اجتماعية عالية، مع تقدم السن ووهن العظم، وما لانت لهما قناة، ولا فترت منهما عزيمة، وبالعودة إلى الأصول والجذور، تبين أنهما ينتميان إلى الصعيد الجواني -بالألف المتوسطة وليس باللام- الذي صبغهما بملامح تربة النيل وعطائه، وأنهما تجسيد لقاعدة علماء التربية “المرء ابن بيئته”.
تذكر المصادر أن يحيى حسين عبد الهادي ولد في القاهرة سنة 1954م ونشأ في محافظة أسيوط عاصمة الصعيد، ثم التحق بالكليّة الفنية العسكرية عام 1972 وتخرَّج فيها عام 1977، وظلَّ يخدم في القوات المسلحة ضابطًا مهندسًا حتى عام 1992.
وبعد خروجه من الجيش، شارك في تأسيس مركز إعداد القادة وأصبح مديرًا للمركز، ووكيلًا لوزارة الاستثمار عام 2004م، ومع ذلك كله أعيد اعتقاله فرج الله عنه.
أرضية التنظيم:
اعتقال مثل هذه القامات الوطنية الكبيرة، ونظرائها مثل السفير معصوم مرزوق أحد أبطال حرب العبور 1973م يدلّ على أن المشكلة ليست مع التيار الإسلامي، أو مع فصيل من فصائله، وإنما المشكلة مع أي صوت يعارض، وأنه لا يُقبل من الناس إلا السمع والطاعة، وتنفيذ الأوامر ولو خطأ، حسب المتداول عن طريقة التربية العسكرية.
وثمة مشكلة عند بعض رفقاء دربي وأبناء مدرستي، أنهم لا يقدرون قيمة هذه القامات، وأهمية هذه الأصوات، في كسر ثنائية الصراع بين السلطة وما يسمونه بالإسلام السياسي، لأن إخواني يتعاملون مع المعارضة على أرضية التنظيم، فإما أن تكون مثلنا وتنتهج نهجنا، وإلا فأنت من طريق ونحن من طريق، وطريقة بناء الدول تختلف عن طريقة تكوين الجماعات وبناء التنظيمات، والمعيار الذي يمكنك أن تقيس به في حالتنا هذه، هو أن كل من لا يرى في وفاة يحيى القزاز خسارة للأمة المصرية، والجماعة الوطنية، والأسرة الأكاديمية، فهو ما زال محبوسا في قمقم مجموعته، ومكبلا بأغلال تنظيمه، ولم يتسع أفقه بعد للخروج من دائرة التنظيم إلى نطاق الدولة، ومن حدود الدولة إلى رحابة الأمة، كذلك لا ينبغي أن نفرق في المطالبة بالحرية وفك الأغلال، بين كل من سجن ظلما، أو اعتقل من أجل حجب صوته.
وقد اختار الدكتور يحيى القزاز هذه الجملة عنوانا لحسابه على منصات التواصل:
“أنت في كل الأحوال مواطن على ذمة السجن”
وكل من تابع كتاباته الأخيرة يشعر بأن قضيته كانت نهضة الأمة، والسعي لحرية الوطن، الذي يراه رهن الاعتقال!
وختم حياته قبيل موته بساعات بهذه الوصية على حسابه في تويتر:
«واضح أن السلطة مستمرة في غيها وعنادها، ولم تتعلم شيئا من الماضي ولا من الحاضر، والخطر يحيط بمصر من جميع الجهات، وحوار رأس السلطة من طرف واحد، تقطيع لطرق النجاة وخنق للبلاد والعباد، وعناد الحكام يدمر الدول، لأنهم يملكون القرار، والشعب هو من يدفع الثمن…..».