الأحد يونيو 2, 2024
مقالات

د. وليد عبد الحي يكتب: السيولة الأيديولوجية

برنامج التحديثات الأربعة في الصين مؤشر قاطع على عقم التحجر الأيديولوجي الماوي ودليل ذلك في مستوى الانجاز، وانهيار الاتحاد السوفييتي مؤشر على انهيار الحتمية الماركسية مع كل الرعونة الفكرية التي رافقتها، وانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مؤشر على فتق مؤلم وثقوب كاشفة في المنظور الوظيفي ونظريات التكامل، والتلكؤ الواضح في مواصلة المكانة الأمريكية في «الواحدية القطبية»، مؤشر واضح على تضحية النظام الرأسمالي بوحداته لحساب موضوعه، وعبثية سعي الإسلام السياسي لتقديم منظور موحد ومدرك لتعقيدات المجتمع الدولي المعاصر تتجلى في تناحر داخلي مشدود لقرون خلت وفي تطويق خارجي تمت حياكة شباكه بمهارة، وتنامي دور التنظيمات ما دون الدولة وما فوقها دليل على شقوق تتسع في المنظور الواقعي بشقيه القديم والجديد، وقدرة الصين على التغلغل التجاري وبتفوق كبير يشير إلى مزاحمة ذكية وقاسية لمتغيرات القوة الناعمة للقوة الخشنة، وتنامي الثقافات الفرعية مع اتساع قاعدة السوق الدولي، والتحولات التكنولوجية التي جعلت من الجيوسياسي والجيو استراتيجي بحاجة ماسة لفهم جديد في ظل إلغاء مفهوم المسافة والبعد والقرب، كلها مظاهر لمشهد ذي طبيعة سريالية كما لو أنه حي عشوائي.

لكن بالمقابل، هناك بقايا وركام ما تزال فاعلة من كل ما سبق من نظريات كبرى، ويمكن رصد الشواهد لها، وهو ما يعني أن الاضطراب الفكري وحالة «التيه» القائمة وآخر ملامحها وصول ترامب للسلطة، ناتجة عن مشهد هو بمثابة دورق تختلط فيه كل هذه النظريات والأيديولوجيات، مما يعني فشل الاتكاء على أحدها لفهم الواقع المعاش، ويستوجب كل هذا الحذر الشديد في التفسير والتأويل، لان «سيولة» الواقع تنبئ عن «سيولة الفكر» وامتزاج الألوان ببعضها، ويتحول المشهد كما لو أنه وقوف بين المرايا.

إن الخوار الذهني الذي يمكن تلمسه في عدم قدرة «النخب والعامة» على تفسير ما يجري، هو تعبير عن تدفق روافد الفكر الإنساني قديمه وحديثه لتصب في نهر واحد تحاول العولمة أن تحفر له المجرى، فتعترضها صخور أحيانا، وتلين أمام معولها واحات وسهوب وسهول أحيانا أخرى..

يبدو -كافتراض أولي ومتهيب- أن النهش المتبادل بين العام الإنساني والخاص الهوياتي سيتواصل، لكن زاد العام الإنساني وذخيرته تبدو أوفر للوصول لنهاية السباق، لكنه سيكون مهشما ومنهكا وفيه بعض حنين لخصوصيات مندثرة..

وألف ربما.

Please follow and like us:
د. وليد عبد الحي
أستاذ علوم سياسية، الأردن
قناة جريدة الأمة على يوتيوب