د. ياسر عبد التواب يكتب: التفاهة منهج يتحكم في قوى المجتمعات المختلفة
يشيع تقسيم القوى في المجتمعات الحديثة بين القوة الخشنة (قوة الجيوش والأسلحة وما يشبه)
والقوى الأخرى التي يطلق عليها القوى الناعمة.
وتلك الأخيرة تتنوع بين:
– القوة الاقتصادية
– والقوة الفكرية (دينية وثقافية وتعليمية الخ)
– ويمكننا استثناء القوى الإعلامية والفنية كتصنيف ثالث رغم انتمائها لمصطلح القوة الفكرية.
-وبعد ذلك القوة الاجتماعية باعتبار تأثير الثقافة السائدة وقيمها في المجتمع نفسه وفي المجتمعات المشابهة.
– (إذن القوى الناعمة الخالصة تشمل أنواعا ثلاثة: اقتصاد وفكر واجتماع) وكل مفردات تلك القوى تؤثر فعلا في المجتمعات الداخلية والخارجية كذلك وبحسب حجمها وهي قوى عابرة للأماكن والأزمنة.
الدين مثلا تأثيره عابر والثقافة عابرة والقيم الاجتماعية عابرة سواء في مجتمع أكبر أو في المجتمع العالمي بل الاقتصاد القوي عابر ومؤثر في الدول الأخرى.
وكل هذا يمكن استغلاله ويمكن تحريكه ويمكن ترشيده في المجتمعات الصحية ليفيد المجتمع القريب والمجتمعات البعيدة.
في الإسلام تعد القيم الدينية والاجتماعية والثقافية شائعة في البلاد التي تنتمي إليه وتؤثر فيها وتتحكم في أفرادها وفي كثير من ثقافات الغرب أو الشرق.
ولئن تساءلنا فأين القوى السياسية؟
– فنقول إنها في العادة في المنتصف بين القوة الخشنة وبين القوى الأخرى المذكورة فهي تأخذ من هذا وذاك وهي لا يستغنى عنها بحال للطرفين وهي أقرب إلى القوى الناعمة من حيث الوصف لكنها في المجتمعات المتسلطة تميل إلى جانب القوى الخشنة وربما تكون احد منتجاتها (كتسلط العسكر والانفراد بالحكم مثلا).
– وفي الحالة الأخرى تكون رمانة الميزان بينها وبين القوى الناعمة بل هي التي تتحكم في القوى الخشنة وتضبط إيقاع القوى جميعا.
– وفي تسلط آخر في بعض المجتمعات -ولا سيما الحديثة- نجد ان قوة الاقتصاد تمثل عقبة لا يستطيع تجاوزها الساسة لأنهم ببساطة يتدخلون في دعم وجودهم ومساندتهم في تحقيق أهدافهم وفي وصولهم إلى الحكم وقد تكون القوى الاقتصادية العابرة للقارات كشركات الطاقة وتصنيع الأسلحة والغذاء الأساسي.
في الإسلام ومنذ تولي الخلافة أبو بكر رضي الله عنه بان تحكم القوة السياسية الحاكمة في القوة الخشنة للجيش وغيرها.
ووقف جيش أسامة ينتظر ما تفضي اليه المشاورات ترى هل يتوجه الجيش لوجهته التي حددت قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم يتم تأجيل ذلك مراعاة للأوضاع الجارية.
وبكل الأحوال كان هذا التدرج في المسؤولية ووضوح أدوار كل قوة محدد المعالم وفقا للتقسيم التلقائي الذي يراعي أن دولة الخلافة تقوم على أساس فكري طبيعيا رغم امتلاك الجيوش القوة اللازمة لفرض وجوده وتصوراته لكن هذا لم يحدث أبدا في ذلك العصر وأبو بكر يوجه جيوشه الست إلى أماكن التمرد على الدولة في هذا الوقت الدقيق ويبدل بين القيادات.
وجرى ذلك النسق وتحكم القوة السياسية في القوى الخشنة في عصر عمر الذي عزل خالد رضي الله عنه قائد الجيش المخضرم المنتصر في أوج قوته وانعزل خالد ولم يجد غضاضة في ذلك ولم يخطر بباله أي تمرد وهذا النسق كله استمر بكل علاقة بين الطرفين وتلك هي العلاقة الطبيعية والمناسبة.
ولئن كانت الأمور لاحقا ليست بنفس الفصل والوضوح لكنها كانت هكذا في أعم وأغلب حقب الخلافة ولا سيما عند بداية العصر العباسي وبدأ خط انحراف ليس هنا موضوع رصده.
على الجانب الآخر والحضارات الأخرى تم التعامل بين القوى المذكورة بشكل أكثر غموضا وفق صراعات أحيت ممالك وأسقطت أخرى فتارة مع تسلط قوى الكنيسة او في صراعها مع الملوك والسادة كذلك كطبقة لها مصالح او القوى الخفية والجماعات المستترة التي اسقطت الملوك وتواطأت عليهم.
وربما أوضح الأمور هنا ما حدث إبان الثورات الأمريكية والفرنسية والبلشفية من مؤامرات خفية وتحكم في حركة الجماهير وبث الأفكار وهو ما توافق أيضا لرغبة التغيير لدى الشعوب ونتاج ظلم الممارسات والتسلط الكنسي ونظم التميز الحاكم للملوك وحاشيتهم.
لكن هل كان الحراك لصالح الشعوب حقا؟ ام صب في النهاية لصالح من حركوا تلك المؤامرات ونموها وذكوها بالأكاذيب والافتراءات؟
إن قيادة شعوب تافهة سطحية الفكر أيسر كثيرا من شعوب جادة عاقلة تفحص الأمور وتدرك الحقوق وتكافح من أجل نيلها.
الحق أن غياب منهج يقاس عليه يفتقد هنا فعلا ولذا يسهل تضليل الشعوب.
إن منهجا كالإسلام يرشد ويوازن ويضبط بين القوى حتى تنسجم ولا تتضاد سيتوه البشر من غيره ويتخبطون.
وكأن حكمة الله تعالى في التيه أن يبحث الناس عن طريق قويم تتحقق فيه الموازنة بين الروح والعقل وأيضا يحقق مصالح الإنسان في حفظ عقله وماله وروحه ودينه.
وينبهر الناس بسفاسف الأمور وبلغة خطاب مبهرة وبشخصيات لها وجوه جميلة وعقول تبدو جادة لكنهم ذوي فكر سطحي أو يتعمدون تسطيح الفكر المطروح من أجل التشويه المتعمد أو بسبب ضياع المنهج مع شيوع الضلال المطروح لدى الجهات الفكرية القائدة كالكنيسة التي ضلت الطريق وتسلطت على الحقوق وعلى العلم وعلى العقل والفكر وهو ما ارتد فأفرز رفض الدين بالكلية فكانت العلمانية أو الشيوعية والأفكار البرجماتية التي تفرز الذاتية وتختزل الإنسان في الشهوات واللذات أو الفكر الانعزالي.
حدث هذا وكان مفتاح كل تلك التحركات هو (غفلة مزدوجة) من القوى الفكرية والفاعلة ومن القوى الشعبية والمحتشدة (الجماعي).
فكلاهما وقع في فخ التبسيط والتسطيح وانعدام الفكر الناقد فانصاع لتلك التحركات وخلطوا بين الحقائق والشبهات ولم يقدروا الأمور بقدرها الذي يميز بين شر الشرين وخير الخيرين.
ويقول برتراند رسل: والحقيقة هي ان كل ما حولنا يشي بتسطيح المهم وتسخيف المعتبر، من خلال الاستخدام المبالغ فيه للغة والخطاب الساذجين، بدعوى التبسيط.
والحقيقة هي ان هذا التبسيط إن بولغ فيه، يمكن ان يصل الى درجة لا يرتجى منها التطور العقلي المجتمعي الصحي، بل يصير مهددا له.
ونقل عن أينشتاين قوله: ((كل شيء ينبغي ان يكون في أبسط أشكاله، لكن يجب ان لا يكون أبسط مما هو عليه))