محمد نعمان الدين الندوي يكتب: قد يكون العمل واحدًا.. ولكن تختلف دوافعه
على مائدة العلم والأدب:

نعم.. رجل واحد يمارس عملًا واحدًا في الظاهر.. ولكن الدوافع وراء العمل تكون متباينة..
فالدافع إلى العمل قد يكون نابعًا من الحب والاحترام والاحتساب، فيؤجرُ الإنسان، الذي يُشبِع به -العمل- عواطفَه النبيلة، التي يموج بها قلبه نحو الإنسان الذي مارس معه العملَ ذاك..
بينما قد يكون نفس العمل مثارًا للشكوك والشبهات.. مذمومًا مستنكَرًا.. مجلبةً للعار.. إذا كان صدر عن دافع غير طاهر أو نبيل.. أو في موضع غير لائق بهذا العمل..
خذ -مثلًا- القُبلة.. ومعذرة على ضرب المثال بهذه الكلمة/ العادة.. فلم أجد أوضح ولا أجمع منها لبيان مقصودي..
فالقبلة أنواع عديدة الدوافع والدلالات.. فمنها ما هو محمود ومطلوب.. ومستحق للأجر والثواب.. ومنها ما لا حرج فيه لا شرعًا ولا عرفًا.. ومنها ما هو مذموم عرفًا وخلقًا بل محرم حرامًا باتّا..
فالقبلة التي يقَبِّلها -أو يقبل بها- الإنسانُ جبينَ والديه.. هي قبلة لا شك في مشروعيتها بل في قدسيتها.. وإذا قلنا إنها من أقدس القبلات وأطهرها وأزكاها وأسماها.. لم نخش أحدًا يعارضنا في قولنا هذا..
لأن هذه القبلة -في الحقيقة- أدنى رمز للتعبير عن عواطف الحب الصادق والاحترام البالغ اللذين يكنهما الولد البار للوالدين الكريمين..
إنها -قُبلة الولد للوالدين- لون من ألوان التعبير عن الحب والبِرّ والوفاء والفداء..
فمن هنا.. هذه القبلة محمودة مطلوبة، يؤجر عليها صاحبها من غير شك.
ومما يؤثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: قبلة الوالد عبادة..
هذا. وهنا يجب أن نمدح لإخواننا العرب سبقهم إيانا -نحن العجم- في الاتصاف بهذه الشميلة الكريمة.. أعني تقبيل الأبناء للآباء والأمهات.. فهذا عندهم عادة شائعة وتقليد متوارث.. وهو تقليد جدير باحتذائه والعمل به.
أما عندنا -نحن العجم- فتكاد تكون هذه العادة -عندنا- شبه غائبة أو مفقودة.. وينبغي أن نشيع هذه العادة الكريمة -عادة تقبيل الأبناء للآباء والأمهات- ونهتم بها.. فهي مجلبة للخير والبركة، وأنَمّ عن عواطف الحب والاحترام التي يكنها الابن للوالدين، وأدعى إلى الظفر بدعواتهما.. تلك الدعوات -دعوات الوالدين- التي إذا حظي بها أحد، نجح في الدنيا والآخرة.
وتماثل هذه القبلة َ قبلة أخرى ليست بأقل خيرًا وقدسية من شقيقتها..
وهي قبلة التلميذ لأستاذه.. فالأستاذ يلي الوالدين في العظمة والاحترام، بل هناك من يفضل الأستاذ على الوالدين:
أفضل أستاذي على فضل والدي
وإن نالني من والدي العز والشرف
فهذا مربي الروح والروح جوهر
وذاك مربي الجسم والجسم كالصدف
فتقبيل الأساتذة والمشايخ والعلماء والصالحين أيضًا عادة مباركة، تدل على حب التلامذة والصغار وتوقيرهم للمشايخ والكبار.. وهذه -أيضًا- خصلة سبقنا فيها إخواننا العرب الكرام.. فهذه العادة الكريمة معروفة شائعة فيهم.. ونحن -العجم- في حاجة إلى اتباعهم فيها..
هذا. وقد ثبت تقبيل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ليد رسول الله ﷺ، كما أخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان في سرية من سرايا رسول الله ﷺ، قال فحاص الناس حيصة، فكنت فيمن حاص.. قال: فجلسنا لرسول الله ﷺ قبل صلاة الفجر، فلما خرج قمنا إليه، فقلنا: نحن الفرارون، فأقبل إلينا، فقال: «بل أنتم العكارون»، قال: فدنونا فقبلنا يده.
ومن هنا.. قال العلماء: تقبيل يد الرجل لزهده وصلاحه، أو علمه أو شرفه أو صيانته، ونحو ذلك من الأمور الدينية، لا يكره بل يستحب.
قال ابن عبد البر: تقبيل اليد إحدى السجدتين.
وقال السراج للإمام أحمد: ائذن لي أن أقبل رأسك، قال: لم أبلغ أنا ذاك..
ورأيت -كذلك- في العرب نوعًا آخر من القُبلة، لا نعرف له أثرًا في بلادنا..
وهي قبلة نستطيع أن نسميها بـ: «قبلة التنويه والتقدير».. القبلة التي يقبلها الأساتذة أو الكبار للتلاميذ أو الصغار.. تعبيرًا عن الحب لهم، وإشادة بتفوقهم، وتقديرًا لكفاءتهم..
ولي الشرف بأنني حظيت بمثل هذه القبلة المشجعة المقدرة.. وذلك حينما وصلت في بعثة طلابية من ندوة العلماء (سنة ١٤٠٢ھ – ١٩٨٢م) إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وصح عزمي على الالتحاق بكلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، فأجري لي امتحان في القرآن الكريم، فلما فرغت من الامتحان، قام فضيلة الممتحن وقبّل جبيني، وأبدى سروره وإعجابه بقراءتي للقرآن الكريم، وكتب في ورقة الامتحان: الطالب محمد نعمان الدين الندوي يلحَق بكلية القرآن الكريم لحفظه الجيد وأدائه الطيب..
فكان هذا أول عهدي بمثل هذه القبلة.. (القبلة المدنية المباركة) وعرفت بعد ذلك أن أمثالها شيء معروف عند العرب.
وهناك قبلة نستطيع أن نسميها: «قبلة القلب والحب والروح».. وهي القبلة التي يثَبِّتها الأب على جبين أو خد ابنه.. وكذلك القبلة التي تطبعها الأم على فلذة كبدها وبضعة جسدها وقطعة من لحمها وجزء من دمها..
فحقيقة هذه القبلة لا توصف.. ولا يشعر بحلاوتها ولذتها إلا صاحبها.. وهي -لا شك- أسمى وأخلص وأطهر قبلة..
فالأم حينما تقبل ابنها أو ابنتها.. فكأنها تصب حبها وحنانها ورأفتها وشفقتها بل روحها في كيان ولدها.. أو قل: تشحن بطارية حبها بقبلتها هذه.. فقبلة الوالد أو الوالدة لولدها أسمى قبلة وأطهرها وأزكاها وأخلصُها من الرياء والنفاق وكاذب الحب..
هذا. وتقبيل الآباء والأمهات لأولادهم كان عادة مألوفة معروفة في زمن النبوة والصحابة، لم يستنكرها الرسول صلى الله عليه وسلم، بل أشاد بها وأنكر على من لم يكن يقبل أولاده، فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما أن أعرابيًّا جاء إلى النبي ﷺ، فقال: تقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم، فقال النبي ﷺ: «أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة».
لقد أنكر عليه الصلاة والسلام على الأعرابي جفاءه، فليس في تقبيل الأطفال ما يقدح في الرجولة، أو يُذهب الهيبة، أو ما يضاد الرزانة والوقار.. بل إن ذلك -تقبيل الصبيان- مما يزيد إلفهم وأنسهم وحبهم لآبائهم، ويغري بهم -الأولاد- إلى مزيد من الاحترام والامتثال -عن رضا وطواعية- لأوامر الوالدين.
ومما يؤثر عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: قبلة الولد رحمة..
وهناك أنواع من القبلة، لا حرج فيها.. مثل القبلات التي يتبادلها الزعماء أو الإخوان والأحباب لدى الزيارات والاستقبالات والتوديعات.. فهذا مما يزيد في التآلف والتقارب.
وهناك قبلة حرام حفظنا الله وإياكم منها.. وهي لا تحتاج إلى بيان.. فكل يُميّز حلال القبلة من حرامها.. ويعرف طيبها من خبيثها.. ومباحها من غيره.. فالحلال -من كل شيء- بين، والحرام بين..
فمن وقع في القبلة الحرام.. فقد غلط غلطة.. وسقط سقطة.. وتورط ورطة..
وفقنا الله تعالى لإحلال ما أحل الله، وتحريم ما حرم الله، والوقوف عند المشتبه فيه.. فضلًا عن المحرّم والممنوع من الشرع.
(الاثنين: ٨ من شوال ١٤٤٦ھ = ٧ من أبريل -نيسان- ٢٠٢٥م).