الأثنين أكتوبر 7, 2024
مقالات

عامر شماخ يكتب: «المياه كلها بلون الغرق»

مشاركة:

شعورٌ سلبىٌّ كريهٌ ينتابُ الكثيرَ من المصريين الآن، هو إحساسهم بالغربة داخل وطنهم، وهذا الاغتراب النفسي المؤلم سبَّبه الواقع السياسي الذي حمل كثيرًا من مظاهر الغربة من حيث فقدان الأمان والاستقرار والسلم المجتمعي حتى بات الحلم العام: إما التحرر من هذا الكابوس، أو الفرار من ذاك البلد الظالم.

مصر الآن ليست هي مصر التي عرفناها من قبل، مصر التي كانت عامرة آمنة مستقرة كثيرة خيراتها، اليوم زاد الغلاء، وعمَّ البلاء، وفشا الفقر، وانتُزعت البركة وصرنا كما قال «إميل سيوران»: (المياه كلها بلون الغرق)؛ ما دفع الشباب إلى الهجرة غير الشرعية وما يكتنفها من مخاطر بعدما تحطَّم طموحُهم على صخرة وطن يأخذ منهم ولا يعطيهم.

لقد غابت العدالة الاجتماعية جرّاء الاستبداد السياسي والانفراد بالسلطة وكبت الحريات، فكثرت المظالم وازداد التفاوت الطبقي، ففي حين ترى طغيانًا ماديًّا في فئة محدودة من الناس، هناك غالبية تحت خط الفقر بينها شرائح تبحث عن قوت يومها فلا تجده، ففقدت بذا الانتماء بعد شعورها بغربة الذات، وفقدان الهُوية.

وفي هذه الأجواء من التحولات الحادة فَقَدَ المجتمع بوصلته، وأُصيب بالجدب الفكري، وغابت عنه فضيلتا العفو والمرحمة، بعدما انعدمت الثقة بين أبنائه، وتقطعت الصلات التي أمر الله بها أن تُوصل، فصار الأخ يعادي أخاه، والجار يقاتل جاره، وفشت الأنانية والأثرة، وصار لسان حال الكثيرين يردد ما قاله «أبو القاسم الشابي»: (إنني ذاهبٌ إلى الغابِ يا شعبي… لأقضي الحياةَ وحدي بيأسِ؛ فأبعدوا الكافرَ الخبيثَ عن الهيكل… إن الخبيثَ منبعُ رجسِ).

نرغب في وطن ملمحه العدل والحرية والكرامة الإنسانية، وسمته الأُخوة والمحبة، وشعاره التقدم والازدهار، لا وطنًا يكرِّس الرعونة والشعارات الجوفاء، نريد وطنًا يشعر الناس فيه بالتراحم والتكافل والتعاون والتساند والرخاء والشبع، لا وطنًا شيمة أبنائه الغل والحسد والشك والريبة، نريد وطنًا بما تعنيه كلمة «وطن» من دفء وراحة بال، وطنًا يمنحنا الأمل في مستقبل سعيد، لا وطنًا مزيفًا لا يحمل من الوطنية إلا حروفها بينما يقتل الشرفاء ويعلي الأدنياء.

إنه لا تستقيم كلمة «وطن» مع غياب الخدمات الأساسية للمواطن، من تعليم وصحة وبنية تحتية إلخ، ولا تستقيم مع الفقر والبؤس والجهل والمرض، ولا تستقيم مع غياب الحريات وتقييد سبل التعبير، ولا يكون الوطن وطنًا إذا ضاعت فيه الحقوق، وفشت فيه الرشوة والفساد، وغلب القوى الضعيف، وامتنع الرقيب والحسيب، وتقدمت النفايات وتأخرت الكفايات حتى تداعى الإحباط وفُقد الأمل في الإصلاح.

إن وطنًا تدنّت فيه الأخلاق وكثُر فيه الكذب والتدليس هو أقرب إلى الانهيار مما يُتخيل؛ (إنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيتْ… فإن هُمُو ذهبتْ أخلاقُهم ذهبوا)، فإذا تسيَّد فيه مرضى النفوس والمضطربون سلوكيًّا فكبِّر عليه أربعًا، وشتان بين هذا الوطن الطارد لبنيه المجافي لنجبائه وآخر يضم الشتيت، ويحنو ويربِّت، ويمنع الفُحش والحمق والسفه، وهذا ما يجعل أبناءه يعيشون فيه ويعيش فيهم.. أما ذاك الوطن العاق فلا موضع له في قلوب بنيه بعدما جار عليهم، فهم وإن بقوا على أرضه لا يتعدون أجسادًا ذابلة لا روح فيها.

Please follow and like us:
عامر شماخ
كاتب صحفي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *