عامر شماخ يكتب: «غزةُ» التي لم نكنْ نعرفُها
كنّا نعرف أهل «غزة» جيرانًا طيبين، وإخوة مسلمين، واجهوا العدوان وتحدوا المحتلّين الغاصبين، وقضوا عقودًا تحت القصف والحصار والتجويع والتهديد بالتهجير، وكنّا نعلم أن منهم أبطالًا مغاوير حفظوا القطاع من الضياع ووقفوا سدًّا منيعًا أمام اليهود، فما ضعفوا وما هانوا وما استكانوا… والحقيقة أن هذا ليس كل ما نعرفه عن «غزة» وأهلها.
عرّفتنا الحربُ أنهم ميراث النبوة، أتباع محمد ﷺ وحاملو رايته، وأنهم خيرية الأمة وعنوان برِّها وصلاحها، وأنهم رمزُ الجهاد والتضحية، وموكب الفداء، وهم أيضًا خلفُ السلف الكريم، أحفادُ القادة العظام والعلماء الأجلّاء والأولياء الصالحين، أهلُ القرآنِ والفجر والضحى والليل والقيام، أهل الصبر والثبات، والصوم والرباط والإيمان.
خمسون يومًا من الحرب الفاجرة الغادرة، من عدوٍّ حاقد مجرم، خمسون يومًا من التدمير والإفناء وإهلاك الحرث والنّسل.. وهم كالجسد الواحد؛ شعب كلُّهُ مقاوم، مليونان وثلاثمائة ألف بمن فيهم النساء والأطفال والشيوخ يقفون موقف الجندي المقاتل، ما ضرّهم أذى ولا خسارة ولا خذلان القريب وتأليب البعيد، بل الكلُّ مضحٍ، على نفس الوتيرة من الصمود، غير آبهين لعدوٍّ، غير آسين على ولدٍ أو مال أو بناء، يرمون مع مقاومتهم عن قوس واحدة، من دون طنطنة أو ضجيج.
ولنتصور حالهم على مدى هذه الأيام الخمسين، وقد حُرموا النوم والراحة والأكل والشرب والدواء، بل حُرموا كل شيء إلا روحًا مشرقة بالإيمان، ونفسًا متطلعة إلى النصر والحرية، وإرادة وعزمًا لا يملكهما إلا ذو شأن وحال مع الله؛ ما جعلهم معتزّين بأنفسهم، واثقين بموعود الله؛ فلم يستكينوا ولم ييأسوا كما يفعل الآخرون، فإن رأوا فقدًا أو دمارًا، وقد بذلوا الوسع وأعدوا ما استطاعوا من قوة قالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فلهؤلاء وأمثالهم شرفُ الدنيا وعزُّ الآخرة.
ونحن إذ نطلُّ عليهم شاهدين ما يفعلون، يتجدد فينا الأمل، وينقشع اليأسُ الذى ضرب كثيرًا منّا خلال العقود الماضية؛ للأحوال التي مرّت وتمرُّ بها بلادُنا، لقد أحيت تلك النفوس الكبيرة الرغبة لدى الملايين للتخلص من حالة الذلِّ والهوان التي نعيشها، ومن حال التبعية والتخلف التي نحياها، وأكدوا بلسان الحال أن العقيدة تصنع المستحيل، وأن الإعداد المأمور به يفضي إلى صوْن الكرامة واحترام الذات، وأن الاتصال بالسماء ضامنٌ للعزِّ والسؤدد، وعلى غير ما كان يعتقد البعض من ضياع الفرص لاستنقاذ الأمة؛ أكدوا أنه لا زال في الوقت متسع، وأن عناصر السلامة لا زالت باقية في الأمة، وهم دليلٌ واضحٌ على هذه وتلك.
«غزة»؛ ذلك الجزء الضئيل مساحةً في خريطة العالم صار قمرًا يضئ كل هذه الخريطة، ومن لم يكن يعرف في أي دولة يقع هذا القطاع، بل ربما لا يعرف اسم الدولة نفسها.. صار اليوم مقصدًا للأحرار حول العالم، أيقونة التضحية والفداء، حالةً خاضعةً للدراسات العلمية والبحوث الاجتماعية والنفسية والعسكرية؛ لفك طلاسم هذا الشعب الجبّار، والتوصل إلى ما وراء هذا الصمود الأسطوري العجيب، وهم لا يدركون أنه الإيمان، وأنه منهاج النبوّة وروح الإسلام التي ما فتئت تنجب أبطالًا لا يهابون موتًا ولا يرهبون عدوًّا ولا يساومون على دين أو وطن، ولا يُقادون برغبة ولا برهبة، ولا ييأسون، بل يزدادون ثقة وإيمانًا ولو اجتمع عليهم الخلقُ أجمعون.