أقلام حرة

عندليب الهند العربي: الأستاذ محمد واضح رشيد الحسني الندوي

بقلم: محمد نعمان الدين الندوي

[هذا المقال كان كتب بعد وفاة الأستاذ واضح رشيد رحمه الله بأيام، ونشر في رسالة، و يحلو لي أن أعيدَ نشره على وسائل التواصل الاجتماعي للذين لم يطلعوا عليه من تلامذته ومحبيه من العجم والعرب:

أعد ذكر نعمان لنا أن ذكره

هو المسك ما كررته يتضوع

علمًا بأن ما يلي جزء من المقال، وليس بكامله].

 * * *

عقم النساء فما يلدن شبيهه

إن النساء بمثله عقم

في يوم الأربعاء: 9-4-1440هـ = 16-1-2019م فجراً، حدث حادثان عجيبان، ووقع أمران غريبان:

غربت شمس، وطلعت أخرى…

طلعت شمس النهار تنشر ضفائرها وتنثر جدائلها على التلال وتبث سحرها على الجبال، فأسفر النهار، وانقشع الظلام، وعادت الحياة والبهاء إلى الكون، وتغردت الأطيار على الأشجار، وتبسم وجه الأرض، وبدأت الحركة والكدح للإنسان.

ولكن قبيل طلوع شمس النهار هذه.. غربت شمس العلم والفضل والنبل والمعرفة والأدب والزهد والصلاح والتقوى: أستاذ الأجيال، وصانع الرجال، ومربي الأساتذة، وعميد الأدباء، وأحد رواد الصحافة العربية في الهند، الشيخ محمد واضح رشيد الحسني الندوي رحمه الله وبرد مضجعه، ونور قبره، وأسكنه فسيح جناته، وعوضنا عنه خيرا، وما ذلك على الله بعزيز.

تسمرت في مكاني حينما سمعت خبر موته، فلم يكن موت الفقيد موت رجل عادي.. وإنما كان موت عظيم كان ملء السمع والبصر، وملء الزمان والمكان..

شعرت بموته كأنني فقدت أعظم مخلص وأكبر محسن وأنبل مشجع لي..

فلم أر في حياتي أستاذاً أعظم إخلاصاً، وأكبر اهتماماً وسروراً بتقدمي، وأخلص مشورة وأحسن خلقاً من الفقيد، فالحقيقة أن لتشجيعه وحفزه إياي إلى الأمام، وحثه المتواصل على الكتابة والتأليف أعظم دور – بعد الله – في كل ما قمت به من أعمال التأليف.

فكلما كان صدر لي كتاب، أبدى سروره البالغ به، ودعا لي بمزيد من التقدم، وأثنى عليّ بكلمات استحيي من ذكرها.

حينما صدر كتابي: «خصائص اللغة العربية.. ولماذا يجب تعلمها؟». قال عنه: «إنه عملٌ متميز فريد»..

وكذلك لما صدر عدد خاص بسماحة الشيخ أبي الحسن الندوي – رحمه الله تعالى – من مجلة الصحوة الإسلامية، التي كنت رئيس تحريرها آنذاك، فرح به فرحاً عظيماً، وقال عنه: “إن لهذا العدد صدى.. “.

فكانت لهذه الكلمات المشجعة المقدرة أثرها في حفزي إلى مواصلة السير في مضمار الكتابة والتأليف.

وإنها لشهادة أشهد بها – أداء للأمانة واعترافاً بالواقع – لله، ولكل من يعرفني أن أستاذي الفقيد ومربي الجليل الراحل الشيخ واضح رشيد الحسني الندوي كان لتربيته وتشجيعه وإخلاصه ودعواته الدور الأكبر والفضل الأعظم – بعد الله – في جميع مكتسباتي الكتابية والثقافية، وأنا أدين لـه – بعد الله – في كل ما وصلت إليه من تقدم – إذا كان يستحق أن يسمى تقدماً – وأعمال في مجال الكتابة والتأليف.

 ومن ثم… أشعر لفقده بحزن لا يوصف، ويُتُم علميٍ وأدبيٍ لا يعوض..

آہ.. أين أجد الآن ذلك الترحاب.. وذلك الإخلاص.. وذلك التشجيع.. والحنان الأبوى الذي كنت أجده كلما لقيت أستاذي الراحل.. ذلك الإنسان العظيم الذي لا يوجد له نظير إلا نادراً.

اليوم يشكو الناس من قلة الإخلاص.. بل يقولون: انعدم الإخلاص، وتلاشى الحب الخالص..

ولكننا نحمد الله أننا -نحن تلامذة الفقيد ومحبيه- لا نشكو من ذلك.. بل نشكر الله على أننا رأينا الإخلاص مجسدّا.. وتذوقناه وعشناه..

رأيناه ممثلاً في شخص فقيدنا الغالي، ووجدنا الحب ملموساً حيا في تعامل الراحل العظيم وأخلاقه ورأفته واهتمامه بأمورنا.

فلو كان للإخلاص والحب والنبل صورة لكانت: فقيدنا الغالي- رحمه الله تعالى -.

وإن قلنا: إن الفقيد لم يؤذ أحداً.. لا بلسانه ولا بقلمه أو سلوكه أو حتى إيماء أو إشارة.. ما بالغنا.

 يقول – في حوار له – أن والدته – أخت الإمام الندوي رحمهما الله تعالى -كانت تنصح أولادها- أن لا يؤذوا أحداً ولا يجرحوا كرامته، وحدث ذات مرة أن أحد الأولاد ضرب ولد خادمة البيت، فلما بلغ الخبر الوالدة غضبت غضباً وألحت على الولد المضروب أن ينتقم من الذي ضربه، وما زالت به حتى رأت أن المضروب انتقم من ضاربه، ففي مثل هذه البيئة الطاهرة النزيهة العادلة – التي تراعى فيها القيم الإنسانية إلى آخر الحدود – كان تربى فقيدنا، فكان لهذه التربية دورها في تكوينه إنساناً نموذجياً يعتبر مثلاً أعلى للصفات الإنسانية الكريمة.

كان الفقيد الغالي نهل من المنهلين، وتثقف بالثقافتين الإسلامية والعصرية.

فأولاً درس في ندوة العلماء التي تعد من كبرى مراكز التعليم والتربية العالمية، والتي تفضل على شقيقاتها -رغم الاعتراف بأهميتها- بمزايا لا تخفى عن البصراء الواعين، تتلمذ فيها على مشاهير المدرسين من أعلام علماء العصر، من أمثال العلامة سيد سليمان الندوي، وخاله الإمام أبي الحسن الندوي، والشيخ الكبير عمران خان الندوي الأزهري وغيرهم من نوادر الزمان.

وبعد تخرجه من ندوة العلماء، التحق بجامعة عليكراه الإسلامية ليتخصص فيها في اللغة الإنجليزية والعلوم العصرية، فأخذ من المنهلين أصفى وأحسن ما عندهما من العلم والثقافة والتعليم والتربية، وسلح نفسه بالسلاحين، لينزل إلى معترك الحياة العملية ليؤدي دوره فيها أداء ناجحاً مطلوباً.

فأورثه -النهل من المنهلين- التعمق في العلوم الشرعية، والتمسك بالعقيدة والثوابت، والالتزام بالقيم والمثل، والتحلي بالفضائل والمكرمات، وسلامة الطبع واعتدال الفكر واتزان المنهج، وعاطفة خدمة الدعوة والعلم والدين في جانب، والإلمام بالعلوم العصرية والاطلاع على الجديد النافع في جانب آخر.

كان -رحمه الله تعالى- زاهدا بكل ما للكلمة من معنى ومدلول، زاهداً في المال والجاه، والمنصب والظهور.

 فكان لا يحب الظهور والشهرة مطلقاً، بل كان يكرهها طبعاً وفطرة، في الزمن الذي يتصارع فيه الناس على الشهرة ويتساقطون عليها، ويشترونها مهما كلفهم ذلك من ثمن.. حتى ولو أدى ذلك – حب الظهور – إلى إذلالهم.. ولو على حساب التضحية بالعزة والكرامة نفسها.

فقد كان من حرصه على عدم الظهور وإخفاء نفسه… أنه كان يحب أن يجلس في المناسبات والحفلات في مؤخرة الصفوف… ولا يرضى بأن يجلس في مقدمتها أو على المنصة.

وكان من زهده في المال والمنصب أنه ترك منصباً مشرفاً في القسم العربي بإذاعة الهند الخارجية، وآثر الكفاف والقناعة براتب قليل في ندوة العلماء التي بقي يعمل فيها إلى آخر نفس من أنفاس حياته.

كان كثير الصمت، عظيم التفكير، عذب النفس، حلو الروح، كريم السجية، مرهف الحس.

تفكره علم وسيرته هدى

 وباطنه دین وظاهره ظرف

صاحب الذهن المتوقد الألمعي، والعقل الذكي، والقلب النقي، والخلق الرضي، والقلم الحي الندي، والكلام الناضر الطري.

 فضح بكتاباته المؤمنة الرصينة -التي تتسم بالجد والجزالة والسلامة من التكلف والاستكراه- الاستشراق والمستشرقين، ورد على ترهاتهم وأباطيلهم ودعاويهم، وبين زيف الحضارة الغربية وكشف عوارها ودجلها ومكرها، وأبان فضل الإسلام وروعة حضارته وسموها وعظمتها.

كان ينطق باللغة العربية أحسن من كثير من أهلها الذين رضعوا بلبانها وتربوا في ربوعها، فكان إذا تكلم بالعربية… فكأن عندلیباً هندياً يشدو بأنغام عربية ساحرة في روضة هندية (ندوة العلماء) سماها الطنطاوي بـ: واحة خضراء في صحراء قاحلة جرداء.

فقد كنا نلتذ بالاستماع إلى عربيته في الفصل، وننتظر حصته بفارغ الصبر، ونتمنى أن تطول حصته لما كنا نتمتع بلهجته العربية الخالصة الجميلة الحلوة الآسرة، ونطقه بالحروف العربية من مخارجها الأصلية نطقاً رصيناً متيناً عجيباً، يأسر قلوبنا، ويسحر عقولنا وأذهاننا، ويحبب إلينا العربية ويرغبنا في تعلمها وإتقانها، ويجعلنا نطرب ونهتز لسماع كلامه.

سمعنا أن الفقيد ذات مرة كان يلقي محاضرة في عاصمة عربية، فبهر الناس بحسن إلقائه وجمال صوته وروعة لهجته وصحة نطقه، فسُمِع صوتٌ في القاعة التي كان يلقى فيها المحاضرة – يقول: تعلموا منه القراءة والكتابة.

وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

كان اسماً على مسمى.. فكان الوضوح والرشد والحسن طابعه الدائم الأصيل… الوضوح في الأفكار والرؤى، والرشد في السلوك والمعاملات، والحسن في السيرة والأخلاق والعادات.

والحقيقة أن كل من عرفه أحبه، وكل من قرأ عليه صار أسيره.. أسير عبقريته الأدبية العربية، وإخلاصه وحبه، وخلقه وسيرته..

لقد عاش ابن الرشيد حياة راشدة واضحة حسنة مغبوطة…

ومات كذلك ميتة حسنة مغبوطة، مات بعد أن توضأ للتهجد الذي كان يواظب عليه منذ شبابه، وفاضت روحه إلى بارئها وهو يردد كلمة التوحيد، ويقرأ عليه ابنه الوحيد القرآن الكريم.

فيا لها من حياة كريمة سعيدة انقضت كلها في طاعة الله وخدمة العلوم الشرعية ولغة القرآن الكريم وتربية أبناء المسلمين، وخدمة قضايا الإسلام والرد على المعارضين.

و يا لها من ميتة مغبوطة… تبشر بالرحمة والرضوان من الله المنان.

{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكَ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر: 27-30).

(ليلة الجمعة: 23 من ذي الحجة 1445ھ – 27 من يونيو 2024م ).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights