مقالات

د. أحمد شحروري يكتب: استقلالنا مرهون باستقلال أقصانا

في الخامس والعشرين من مايو من كل عام أعتني بالحديث عن ضمانات استقلالنا الحقيقي بعيدا عن الأمنيات أو العواطف التي نَشبَع فيها كذبا على الذات.

 في ذكرى استقلال الأردن يجب أن نواجه أنفسنا بحقيقة أن هذا الاستقلال لم يعد كما كان قبل احتلال المسجد الأقصى يوم كانت مسؤوليتنا الدستورية تقتضي الحفاظ على مسرى رسولنا والدفاع عن حياضه باعتباره جزءا من أراضي المملكة الأردنية الهاشمية، والاستقلال لا يُتعامل معه بالقطعة، فإذا لحق بجزء من الجسد تشويه أو إخراج من الخدمة بات الجسد عليلا مرشحا لمجابهة ظروف ربما لا ينفع بعد استفحالها طب ولا دواء.

ليس الاستقلال ذكرى تقام فيها الحفلات وتستعرض فيها الأسلحة والصناعات، ولا يختصر الاستقلال بتوزيع أوسمة على قدامى المسؤولين المدنيين والعسكريين، الاستقلال إرادة قوية تصنع إدارة سوية، نرفع العلَم في ذكرى الاستقلال لتذكّرنا خضرته بالخصب، ويذكّرنا مثلّثه الأحمر بالدماء الزاكية التي بذلت لتكون شاهدا على حياتنا وحيويّتنا، ويذكّرنا بياضه بنقاء أهدافنا، أما سواده فيذكّرنا براية العُقاب راية الرسول صلى الله عليه وسلم.

لطالما حلمنا بأن يكون لهذه الأمة العربية المنكوبة باستقلالها علَم واحد، لا يحميه قانون يحوّل المسيء لرمزيته إلى محكمة عسكرية، بل يحميه إيمان شعوبنا بأن العلَم الذي ترفعه في مقدمة صفوفها في طريقها نحو المجد الخالد هو البوصلة، وأن الإساءة إليه إساءة إلى رمز وجود ووحدة، لا إلى مجرد قماش ملوّن.

ما أحسن أن تكون الأمة صادقة في توصيف حالها وهي تجد نفسها مكبلة لا تقدر على تحقيق ذاتها السياسية والسيادية، تكبلها إرادة الأجنبي وإدارته في ظل غياب إرادتها الفاعلة في تحديد مسارها في شؤون حياتها كلها، فأنْ تدعي أمة أنها مستقلة وذات سيادة يعني أنها تملك أن تأكل مما تزرع وتلبس مما تصنع، وأن تفعل ما تفعل وفق مصلحتها الحقيقية، وتترك ما تترك حين يتعارض مع استقلالها الحقيقي.

انطلق طوفان الأقصى واستعلن، وأمة السبع والخمسين دولة إسلامية لا تكاد تحسن تحريك ساكن، ما خلا قرارتها اللفظية المجردة بإدانة المجازر والترويع والتجويع، صحيح أننا نبدو في الاردن صادقين في شعورنا، لكن صحيح كذلك أننا لا نملك حماية أرضنا من قواعد الأجانب الذين أوصلونا إلى حال لا نستطيع أن نستغني فيه عن مساعداتهم، ومن سنن الكون أن صاحب اليد العليا يفرض كلمته وسيادته وشروطه للإبقاء على حدّ أدنى من قدرة صاحب اليد السفلى على الحياة.

إن مما يكرس استقلالنا الحقيقي أن نكون قادرين على الفعل، بعيدين عن ردة الفعل، وأن نقف أمام عدونا وقفة ندّ لا عجز فيها عن تقدير موقف ولا عن حفظ كرامة.

والتحديات التي تواجهنا في سبيل الحفاظ على استقلال البلاد والعباد تحديات عميقة وخطيرة، يظن تيار من تيارات الفكر السياسي أن إيقاعها ينضبط بالأمن ونظرياته، لذلك فقد طفا على السطح تعامل أمني مقلق مع إفرازات طوفان الأقصى جعل صورتنا تبدو للمراقب داخليا وخارجيا مضطربة، فدبلوماسيتنا بدت معبرة أحسن تعبير عن تضامننا مع المظلوم ضد الظالم، وقد عرّت إجرام المعتدي وسوء سلوكه مع أصحاب الأرض الثائرين على من أعمل فيهم تقتيلا وتشريدا، لكن التعامل مع المعتصمين والصارخين في فضاء الصمت العربي المعيب انطلق من تصنيفهم معتدين على سيادة البلد مهددين لأمنه، وهذا ما استدعى نبش تاريخ بعض المشاركين في الاحتجاج على إجرام المحتل وتخاذل بعض الأهل، إلى درجة التعامل الخشن جدا مع من كنا نصنفهم معتدلين في نظرتهم للإصلاح الداخلي، وإلى درجة نبش بعض القبور (فتح ملفات بعض الخلافات مع أموات) باستيلاد خلافات جديدة مع بقايا آثارهم على الأرض!!

لن تنجلي صورة استقلالنا الحقيقي حتى نصطلح مع ذاتنا ونوحد صفوفنا، ونستحضر حقيقة أن الدولة أقوى من الأفراد والتجمعات، وأنه من المقلق خوف دولة من فرد أو جماعة مهما كانت طبيعة مشاغبتها من منظور نظريات الأمن السائدة على الأرض، وما أظن إلا أننا محتاجون للنظر فيها حتى لا نكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، ولا يتحقق الاستقلال بالخروج العسكري لخصمنا من أرضنا وحسب، بقدر ما ينبغي أن يسود في تفكيرنا من نظر ذكي إلى مكونات المجتمع وأحوال أفراده وجماعاته للخروج بخطة يتقدم فيها حسن الإدارة على نظريات الأمن، فالمعادلة اللازمة الضابطة لواقع غير مأمون تتكون من إرادة تصنع إدارة، ومن أمن لا يُتوصَّل إليه بزرع جذور الخوف. وتربية الأمة على الثقة بنفسها والتوجس من عدوها يحوّل المشهد عن صناعة أعداء في الداخل نتاج تخبط بين سطور الأمن والخوف يُنتِج حالة من الأمن المهزوز والخوف المفروز، يقوّض استقلال الأمة وسلامة حاضرها ومستقبلها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى