تقاريرسلايدر

قبل أن يغيب الربيع وتسقط الأوراق

 

    د. إبراهيم أبو محمد

العالم الازهري والمفتي العام لقارة أستراليا 

كيف يكون وجه الأرض وكم تكون مظلمة باردة لو غابت الشمس عنها وتخلف القمر؟

وكيف يكون طعم الحياة لدى الكائنات والبشر بغير وجود الماء والهواء، إن وجدت هنالك حياة،

  • وكم يبلغ حجم التخبط والمعاناة لو أن الناس عاشوا دنياهم بغير نور وضياء؟
  • تلك تساؤلات تعرف الإجابة عليها كل العقول بمختلف مستوياتها وثقافاتها لأن موضوعها ضرورات الحياة التى لا يستقيم للناس وجود بغيرها.
  • لذلك فإن الله تعالى قد امتن على خلقه بأن جعل لهم في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا، والقمر كوكب يرتبط وجوده بالأرض ويؤثر فيها وعليها قربا وبعدا ومساحة وحجما، كما أنه رمز لكل وصف يجمع تجليات الجمال والروعة في إبداع الشعراء والأدباء،
  • والسراج هو الشمس التي تمد الأرض وما عليها ومن عليها بأسباب النماء وأسباب الوجود من دفء وضوء وحرارة، وتلك بعض وظائف الشمس والقمر بالنسبة للوجود الأرضي.
  • وقد اقتضت سماء الحقيقة أن يكون لها شمس وقمر، ودلت بشائر الوجود وتيقن في حقائق التاريخ وضمير الزمان في الماضي والحاضر والمستقبل أن محمدا وحده هو المؤهل لأن يكون شمسها وقمرها معا، وكانت إرادة الله وكان اختياره، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
  • فإذا كانت حياة الناس على الأرض لا تقوم ولا تستقيم بغير الشمس والقمر، فكذلك حياتهم المعنوية والروحية والقيمية والأخلاقية لا تستقيم بغير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
  • ومن هنا كان الربط في الوصف بين الوظيفتين: وظيفتي الشمس والقمر للحياة المادية على الأرض، ووظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنسبة للناس روحيا ومعنويا، قال تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا} (الفرقان : 61).
  • وبنفس الوصف والصيغة تحدث القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه يلفت الأبصار والبصائر إلى تلك المنة الكبرى على الناس ببعثة هذا النبي صلى الله عليه وسلم.

وما أظن بشرا أو ملكا مقربا اجتمع فيه الوصفان وصف الشمس ووصف القمر مثلما اجتمع هذا الوصف القرآني في محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} (الأحزاب: 45-46) فأي بشر هذا ….؟

  • إنه بشر معصوم بكمال الله له.
  • وإذا كانت العصمة لا تنافي المحنة والاصطفاء لا يمنع الابتلاء إلا أن قدرات البشر وإراداتهم كثيرا ما تخور أمام المحن وتذوب أمام المصائب، وتتأثر بذلك أفكارهم وعقولهم وعواطفهم ومشاعرهم وتصوراتهم.

وكثيرا ما تأتي أحكامهم على الأشياء تحت ضغط الظروف مجافية للصواب منافية للحقيقة.

  • غير أن جانب النبوة في الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم معصوم بكمال الله له، وهذا الكمال في شخصه قانون لا يتخلف أبدا فلا تغيره الظروف ولا الأحداث ولا ترفعه المصائب والمحن.

 لذلك فإن الله تعالى طالبنا ونحن نسلم عقولنا وقلوبنا ومشاعرنا وعواطفنا لرسوله الله صلى الله عليه وسلم أن نكون على ثقة ويقين بسلامة موقف الإتباع له والإنقياد لأمره والإنصياع لتوجيهه في الأحوال كلها أمرا كانت أم نهيا.

  • وإذا كانت النجوم في مسارها بين شروق وغروب نراها لا تضل ولا تزل ولا تخرج عن مسارها فتختل، وتجري في هذا الفضاء الرحيب والرهيب منذ ملايين السنين ولا تتخلف أبدا .

 فكذلك عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضل ولا يزل ولا يختل، وهذا هو مدلول القسم الجليل والجميل في تأكيد هذا المعنى.

 قال تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)(النجم 1-4) فأي بشر هذا وأي عقل هذا؟

  • إن الله تعالى حدث البشر عن حجم التفاعل الذي يحدث للجبال لو أنها تلقت كلمات الله، وأراد سبحانه أن يضرب للناس مثلا يدفعهم إلى التأمل ويثير فيهم العقل والفكر، إن ذلك لو حدث وتلقى الجبل كلمات الله لرأيته خاشعا متصدعا تنهد جنباته وتنهار قواه.

 قال تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر: 21).

 هذا شأن الجبل. فما شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

  • لقد نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى كلمات الله على مدى ثلاثة وعشرين عاما وهي تتلى عليه بكرة وأصيلا.

 ومع ذلك ظل واثق الخطوة يمشى بشرا متواضع النفس مستقر الفؤاد ألاق المحيا غير جبار ولا متكبر ….. فأي بشرية هذه وما حجم طاقتها وقدراتها؟ وهل تماثلنا موضوعا وإن تماثلت شكلا؟.

 لقد قال المفسرون والخبراء في علوم القرآن أن سورة الأنعام نزلت جملة واحدة وهي من السور المكية الطوال ذوات الفواصل المتباعدة، وعدد آياتها خمس وستون ومائة.

 نزلت مرة واحدة وتلقاها قلبه ووعاها عقله واحتوتها ذاكرته دون أن تغيب منها كلمة واحدة أو يفلت منها حرف واحد، فأي قلب هذا؟  وأي عقل هذا؟ وأي بشر هذا؟

  • إنه بشر مثلنا، والمماثلة في شئ لا تعنى المماثلة في كل شيء، لكنا لسنا مثله فهو يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه، ولا يعرف قدره العظيم إلا الله العظيم الذي يعلم من خلق.

 ونعم المخلوق العظيم صاحب الخلق العظيم وتبارك الله أحسن الخالقين، ولا يعرف قدره إلا ربه، الذي قال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (الأحزاب: 56).

  • ونحن نقول في صلواتنا ” اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد كيف؟

كيف يقول الله لك صل عليه فتقول لربك صل أنت يا رب عليه؟.

  • نعم لأن الله يعلم أن هذا النبي لا يعرف قدره إلا ربه ولذلك طلب منا أن نفوضه هو سبحانه بأن يصلى عليه، لأننا أعجز من أن نعرف قدره.

 ومن ثم فصلاتنا نحن عليه حين لا تكون مرتبطة بتفويضنا لله بأن يصلي عليه ستكون أقل مما هو مطلوب لمقام النبوة وقدرها العظيم، ومن ثم فنحن نفوض ربنا لمعرفته بكمال نبيه بأن يصلي هو عليه الصلاة التي تليق بقدره ومقامه العظيم صلى الله عليه وسلم.

بين ذكرى نحييها وأخرى نحيا بها.

  • الذكرى التي نحيها هي ذكرى مضت في التاريخ وانقضت أيامها ولياليها بمضي صاحبها.
  • أما الذكرى التي نحيا بها فهي ذكرى تذكرنا عندما ننسى، وتوقظنا عندما نغفل، وتجدد همتنا عندما نفتر، وترفعنا عندما نهبط.
  • هي ذكرى فيها يتجدد العهد على الوفاء لصاحبها مع كل مرة نشهد فيها لله بالوحدانية ولمحمد بالرسالة “أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله”.
  • هي ذكرى يحيا بها المسلم مع كل لحظة من زمن عمره مرت في الماضي، وتمر في حاضره ومستقبله على سواء، تغرس في حسه ويقينه أن صاحبها صلى الله عليه وسلم لم يغب لحظة واحدة عن الحياة.

 فهو حي في القلب والوجدان، في الحركة والسلوك، في العقل والفكر، في الوحي الذي يتلى، وفي النور الذي يضيئ، وفي السنة المباركة التي تشرق على الدنيا وكأنها شمس النهار حين تسطع بدفئها وحرارتها.

 وفي المنهج الذي يحدد الطريق ويرسم الغاية ويوجه بوصلة الحياة لكل المؤمنين على أرض الله الواسعة.

  • إنها ذكرى تعلمنا أن المؤمن يجب أن يعيش فوق الحياة لا فيها.
  • تعلمنا أن المؤمن هو قدر الله الغالب وقضاؤه الذي لا يرد.
  • إنها ذكرى تعلمنا أن المؤمن صاحب دور ورسالة، فلا يعيش ضعيفا هزيلا مهمشا.
  • إنها ذكرى تعلمنا أن الآخرة الصالحة لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال الدنيا الصالحة.

وأن صلاح الدنيا يتوقف على الأداء الحضاري المتميز لمجموع المؤمنين.

  • إنها ذكرى تعلمنا أن المؤمن لا يطلق دنياه ليتزوج بها الكافر، وإنما المؤمن هو من يملك دنياه ويسيطر عليها ويسخر ما فيها من خير لخدمة الإنسانية وترقية الحياة.
  • إنها ذكرى تعلمنا أن المؤمن ليس من ينسحب من الدنيا ويتركها للشياطين لتغتال أجمل ما فيها من خير، وإنما المؤمن هو من يقود الحياة بعقل ناضج يرفض الخرافة ويأباها.

 وبقلب كبير يعلو على الأهواء، وبضمير حي شريف، وبخلق زكي متسامح يترفع فوق الضغائن والأحقاد، وبهمة تسمو فوق المحن، وبإرادة صلبة لا تفرط قيد أنملة في شئ من ثوابتها.

  • إنها ذكرى تعلمنا أن الحب ركن في الإيمان ودليل على صدقه، وأن المؤمن يعالج كراهية الآخرين بالحب لهم، ويعالج تعنتهم وتعصبهم بالتسامح معهم، ويعالج بخلهم بمزيد من كرمه، ويعالج غضبهم بحسن حلمه عليهم وصبره على حماقتهم.
  • إنها ذكرى تعلمنا أن المؤمن رجل دولة من الطراز الأول، وهو أيضا رجل توبة من الطراز الأول. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (الأنفال24).
  • فهل يتعلم المسلمون من ذكرى ميلاد حبيبهم أن يعيشوا فوق الحياة لا فيها؟
  • كل عام وأنتم بخير، مع كل ذكرى تحيينا، وتحي عقولنا وقلوبنا بعيدا عن الجحود والجدل العقيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى