الأمة الثقافية

قرأتُ لك: كتاب “أفول الغرب”

يرسم الكاتب والمفكر المغربي حسن أوريد بدقة علمية، الانقسامات الغربية الواضحة بشأن القضية الفلسطينية بين الرأي العام الشعبي في الغرب وإداراته السياسية، بعد فشل الحكومات في تضليل الإعلام والرأي العام داخل المجتمعات، وبروز الكثير من الأصوات المندّدة بالتصعيد الإسرائيلي على قطاع غزة، ما أدّى إلى حدوث انقسامات داخلية لا يُستهان بها بين الجانبين مع تصاعد الحرب الوحشية في فلسطين.

يتضمّن الكتاب عرضاً موثّقاً لواقع الأزمة التي يعيشها الغرب حالياً على خلفية الحرب الدائمة التي تشنّها “إسرائيل” على قطاع غزّة، ويستعرض بالشهادات والإحصاءات، التأثير الكبير والعميق للمشاهد المأساوية الفظيعة والمؤثرة التي كانت تنقلها نشرات الأخبار وشبكات التواصل الاجتماعي حول العالم.

وتلك كانت غيضاً من فيض ما هو جارٍ اليوم مع سيطرة الأحداث المروّعة على الصحف وشبكات التواصل، وسقوط أكثر من 23 ألف شهيد مدني وما يزيد على 53 ألف جريح، إضافة إلى الضحايا ممن غُيّبت أخبارهم تحت ركام البنايات والمنازل، والبؤس الناجم عن نزوح مئات الآلاف من المدنيين المشرّدين التائهين، وتفاقم الأزمة الإنسانية بشكل خطير وغير مسبوق في أيّ بلد في العالم على امتداد التاريخ.

يُبرز الكاتب ببراعة استثنائية البصمة الجديدة التي كانت تطبعها الأحداث الجارية والمنقولة في الإعلام منذ ما قبل الهولوكوست الراهن، في مختلف مجتمعات الغرب التي كانت منحازة على الدوام إلى الجانب الإسرائيلي بثبات، فإذا بها تأخذ في التحوّل تحت تأثير الأمر الواقع الذي يشاهده ويقرأه ويتابعه الجميع، إلى استهوال ما ترتكبه الآلة العسكرية الإسرائيلية المتفلّتة من كل قيد قانوني وإنساني، والتحوّل إلى مناصرة الجانب الفلسطيني بنسَبٍ تتزايد يوماً بعد يوم.

والبارز الذي يجذب الاهتمام هو نفاذ بصيرة الكاتب وتوقعه كل ما يجري اليوم بعد سنوات من إصداره كتابه.

يقول د. حسن أوريد: “…يتبيّن للمتابع أن سحر إعلام البروباجندا الغربي سوف ينقلب على الساحر. وهذا ما نشهده حالياً بعد أن أتاحت شاشات الجيب الصغيرة لشرائح واسعة من الجمهور، تنوّعاً في مصادر المعلومات، وواجهت وسائل الإعلام التقليدية، وبخاصة في أوروبا والولايات المتحدة، مأزقاً أخلاقيّاً لم يسبق أن تعرضت له.

من اللامبالاة إلى تأييد فلسطين

يقول الكاتب: “لطالما كان الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي مسألة مثيرة للخلاف في الغرب منذ عقود، لكن في الأشهر الأخيرة تفاقم العنف الوحشي الإسرائيلي في هجمته على غزّة. ولئن كانت الأمور على هذا المنوال منذ سنوات، فكيف بالوضع اليوم بعد قفزة 7 أكتوبر”.

الحقيقة أن الرأي العام الغربي كان عموماً غير مبالٍ بهذه القضية خلال السنوات الأخيرة… كأنما كان يعدّ الاعتداءات الإسرائيلية أمراً مفروغاً منه، مع تأييده العام لارتكابات الكيان الإسرائيلي، بيد أن مجريات الأمور لم تلبث أن قلبت المشهد العام إلى حدّ كبير. فقد امتلأت شوارع العواصم والمدن الكبرى في الغرب بالتظاهرات الشعبية الصاخبة، وارتفعت اللافتات التي تهاجم الكيان الإسرائيلي والسلطات المهيمنة المؤيدة له في مختلف الدول الغربية في آن واحد، وراحت أصوات البعض من كُتّاب ومفكرين وحتى سياسيين، تنتقد العنف الإسرائيلي المتوحش ضد الأهالي الفلسطينيين.

وشيئاً فشيئاً، راح ينكشف الوجه القبيح للسياسات السائدة ولصانعيها، ومقدار التشوّهات التي تكمن خلف الزعم الديمقراطي في الغرب، وظهر جلياً الزيّف الذي يدّعيه القادة والرؤساء والإدارات الحاكمة في مختلف الدول السائرة على الإيقاع الأميركي.

يعرض الكاتب في هذا المقام الكثير مما كان ينقله العديد من الصحف ومختلف وسائل الإعلام، مُلاحظاً “اهتزاز الثقة في الكثير منها، ما اضطرها إلى مجاراة الحقيقة، ولو مع محاولة الدوران حولها ما أمكن”. وهذا سجّله منذ ما قبل العام 2018. وها هي الأمور تزداد تطرّفاً في هذا الاتجاه، ما أجبر، على سبيل المثال، صحيفة معروفة بتوجهاتها اليمينية المتشددة مثل “فايننشال تايمز” البريطانية، إلى الاعتراف بأنها “ترصد تغيّراً واضحاً في الرأي العام الأوروبي والأميركي حيال كلٍ من إسرائيل والفلسطينيين بعد اندلاع حرب غزة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي”، مضيفة أنه “على الرغم من أن الرأي العام كان بعيداً من التوقع أو الوضوح، بيد أن تحوّلات انقلابية جديدة وهامة راحت تحدث وتمتد أصداؤها لتترك تأثيرها في السياسات الوطنية للعديد من الدول”.

يبدو واضحاً أن سلاح السلطة الأعلى (البروباجندا) أحدث في الغرب تحوّلات هامة لم تكن متوقعة، إذ كانت مشاعر التضامن مع الإسرائيليين تترافق مع مشاعر الكراهية للإسلام… وهو ما زال مستمراً الآن. وجاءت تداعيات الحرب المتجددة على غزّة وأصداؤها لتترك تأثيرها في مختلف المجتمعات والأعمار، ما أدّى إلى موجة تأييد للفلسطينيين بشكل غير مسبوق. وتسبب في انقلابات كبيرة، مجتمعية وسياسية، في تعبير بليغ عن الأزمة البنيوية التي تعتري الغرب.

وفي هذا الاتجاه، انتقد الكاتب البريطاني ديفيد هيرست ما يوصف بـ”القيم الغربية وهي تمطر وابلاً من القنابل على المدنيين في غزة”، مُستهجناً كيف أن “الآلاف يموتون بسبب الجرائم الإسرائيلية” وسط حالة من الصمت والتجاهل تسود الإدارات وأجهزة الحكم، وهو يتساءل باستهجان عن “الطرف أو الأطراف التي تحمي مثل هذه الجرائم ضد الإنسانية”،ليقول: “إذا كان هناك دم على يد أحد فهو على يد من يقول إن إسرائيل يحق لها الدفاع عن نفسها”، واصفاً “ما يقوم به الجيش الإسرائيلي بأنه ليس دفاعاً عن النفس بل توسيعاً لإسرائيل وتأسيساً لنظام فصل عنصري أشد خطورة مما حدث في جنوب أفريقيا”، ولافتاً إلى أن “إسرائيل تقول إنها تخوض حرباً وجودية وأن ما قامت به حماس أشبه بالمحرقة… وهذا ادعاء تنقصة الأدلة غير الموجودة أساساً”.

وفي معرض آخر، قال هيرست في هذا الاتجاه: “هناك دعوات إلى قتل جماعي في غزة… حيث يُدفن الأطفال في مقابر جماعية، مع استهداف لمبانٍ وعائلات بأسلحة دقيقة… لذا، لا أعتقد أن إسرائيل وبخاصة جيشها يمكنهما إلقاء محاضرات عن الوحشية، ولا سيما بعدما يجري ضد أطفال غزة. وهو أمر يحدث طول الوقت… وحتى وزير الدفاع الإسرائيلي يقول إن الفلسطينيين هم حيوانات بشرية، وأن جيش إسرائيل لن يُحاسب بينما هو يمزّق قواعد القانون الدولي ويقتل أكبر عدد من الفلسطينيين”.

ويتابع الكاتب قائلاً: “إن تأييد الفلسطينيين يتعاظم بين الأميركيين. لقد كان الرأي العام الأميركي يظهر أقوى دعم لإسرائيل في الغرب، لكن هذا صار من الماضي”.

مواقف الغرب

لا شك أن الرأي العام في الغرب كله بات متعارضاً اليوم مع وضعه التقليدي المؤيد لـ”إسرائيل”، وهو الوضع الذي كان الكاتب استشرفه منذ أعوام، متوقعاً “زوال الغمامة” عن عيون الغربيين مع “إمكانية تفاقم حرب إسرائيل ضد الفلسطينيين”.

والواقع أنه في الولايات المتحدة الأميركية اليوم، وهي أبرز حليف لـ”إسرائيل”، بدا زلزال الرأي العام هائلاً، إذ شهدت واشنطن واحدة من أكبر التظاهرات الداعمة للفلسطينيين.

وأجرت مؤسسة “يوغوف” YouGov استطلاعاً للرأي أظهر أن نسبة 39% من الجيل الشاب (18-24 عاماً) باتت تتعاطف مع الفلسطينيين، مقابل 11٪ فقط من الفئة ذاتها حافظت على تأييدها للإسرائيليين. كذلك لوحظ في الأصداء الإعلامية تراجع الدعم الشعبي الأميركي لحرب “إسرائيل” على حماس بعد نحو شهرين من العمليات العسكرية التدميرية، من 41% إلى 32%، وفقاً لاستطلاعات الرأي، وطالب 86% من الأميركيين “إسرائيل” بإعلان وقف إطلاق النار على حماس. كل ذلك مع تزايد القناعة بتجاوز الانتقام الإسرائيلي حدوده المعقولة، بالتالي فقدان الرواية الإسرائيلية حول هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الكثير من زخمها.

وهذا ما لم يتوقّعه الكتاب بالحرف، على الرغم من قوله في كتابه منذ سنوات “إن العنف الإسرائيلي ليس له حدود، ما يترك تأثيراً صاعقاً في العالم أجمع”.

وبمتابعة الحدث، فقد أوضح تقرير نشره موقع “أكسيوس” مطلع الشهر الماضي أن أميركا بدأت تنقسم بشكل متزايد، وهو ما ظهر في حرم الجامعات وأماكن العمل وشوارع المدن، وحتى داخل مبنيي الكابيتول والبيت الأبيض، الأمر الذي يعمّق الانقسامات التي ستؤثر في عملية إعادة تشكيل السياسة الأميركية ما لم تتراجع الإدارة عن موقفها الداعم للاحتلال.

كذلك أظهر استطلاع حديث للرأي أجرته مؤسسة “غالوب” أن تأييد الفلسطينيين بين الأميركيين الديمقراطيين فاق تأييدهم إسرائيل للمرة الأولى”… وقال 28% من الأميركيين عموماً ممن تتراوح أعمارهم بين 18-29 عاماً، إنهم يؤيدون الفلسطينيين، أما نسبة مؤيدي “إسرائيل” من هذه الفئة العمرية فلم تتجاوز 20%.

ووجد استطلاع رأي آخر أجرته وكالة “إبسوس” في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أن الأميركيين يرون أن بلادهم يجب أن تتصرف في هذه الحرب كوسيط، وليس كداعم لإسرائيل”.

صحيحٌ أن غالبية المشاركين في الاستطلاع أيّدت ردّ “إسرائيل” على هجوم حماس، بيد أن اثنين من بين كل ثلاثة شاركوا في الاستطلاع، قالوا إنه يتوجب على “إسرائيل” الدعوة إلى وقف إطلاق النار وإجراء مفاوضات مع حماس لإعادة المحتجزين. وهذا أيضاً كان في حسبان الكاتب كما تبيّن، إذ قال في كتابه “لا بدّ للغربيين أن يستهولوا ذات يوم ما سوف يرتكبه الإسرائيليون حين تُتاح لهم الفرصة”. وكل المجريات الراهنة تؤكد أنه كان على حق في استشرافه الذي كان مبنياً على عمق معرفته بحقيقة نيّات الكيان.

وبوسع المتابع أن يجد تحقيقاً لهذه التوقعات من خلال المتابعة اليومية للهول الوحشي الذي يرتكبه “جيش الدفاع”. فقد سجّل استطلاع حديث في الولايات المتحدة، تراجعاً واضحاً في تأييد العرب في أميركا للرئيس الحالي بايدن من 59٪ إلى 17٪، وهو ما يمكن أن يكلفه خسارة ولاية رئيسية مثل ميتشغن Michigan ذات الفارق الضئيل بين الجمهوريين والديمقراطيين، وهذا قبيل سنة واحدة تقريباً من الانتخابات الرئاسية.

أما في بريطانيا “أستاذة” الإمبريالية الأميركية و”مرشدتها”، فقد تصاعد اتجاه جديد ومستغربٌ في المجتمع بعد أقل من 10 أيام على هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، يختلف بشكل واضح عمّا كان سائداً. وفي دلالة لا تخفى أهميتها، حمّل الكاتب البريطاني ديفيد هيرست، المجتمع الدولي (الغربي) مسؤولية سفك الدماء الجارية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، معتبراً أن المجتمع الدولي وبخاصة بريطانيا، هو من منح الضوء الأخضر لـ “إسرائيل” للقيام بالهجوم العسكري على غزة، بما يعني منح “الجيش” الإسرائيلي حرية ارتكاب جرائم حرب.

وليس سراً أن بريطانيا شهدت خلافاً علنياً بين زعيم حزب العمال،كير ستارمر، المعارض للحرب على غزّة ورئيس الحكومة ريتشي سوناك، المساند لـ”إسرائيل”. وشهد حزب العمال انقساماً حادّاً أدى إلى استقالة 8 وزراء من حكومة الظل بسبب تعنّت قيادته برفض التصويت لصالح المطالبة بوقف إطلاق النار في البرلمان. فيما أكدت وزيرة الداخلية، سويلا برافرمان، دعمها الفلسطينيين من خلال التظاهرات السلمية الداعمة لقطاع غزة. كذلك أظهر أحدث استطلاع للرأي أن الجيل البريطاني الشاب، بلغت نسبة تعاطفه مع الفلسطينيين نحو 4 أضعاف المتعاطفين مع “إسرائيل”.

وفي فرنسا، ظهرت أعمق أزمات السلطات الحاكمة. وهذا ناجم عن أنه في بلاد الغال تعيش جالية يهودية كبيرة وجالية عربية لا تقل عنها عدداً. لذا، اضطر الرئيس ماكرون أن يصوغ تصريحاته بعناية بعد أن كان يدعو “إسرائيل” إلى الاستمرار في عمليتها العسكرية من دون الالتفات إلى أي خسائر. وتحت ضغط اليهود، اضطر وزير الداخلية إلى اتخاذ قرار يحظر بموجبه الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في جميع أنحاء البلاد، قبل أن تقوم أعلى محكمة إدارية بإبطاله. وما لبث الأمر أن وصل بالإيليزيه إلى الإعلان بلسان ماكرون أن الاحتلال الإسرائيلي الذي يستهدف المدنيين والنساء والأطفال في قطاع غزة، زاد عن المنطقي، وأن على “إسرائيل” وقف إطلاق النار والسماح بإدخال المساعدات ووقف قتل الأطفال مع الحفاظ على المدنيين الفلسطينيين. وبعد ذلك، صوَّتت فرنسا، إلى جانب إسبانيا، بنعم على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي طالب بوقف إطلاق النار.

وفي ألمانيا، أوضح استطلاع حديث للرأي أن نحو ثلاثة أرباع الألمان يرون أن الصراع لم يعد مهماً لهم…

البرتغال وإسبانيا رفضتا ما تقوم به “إسرائيل” من انتهاكات وحشية تجاه قطاع غزة، وطالبتا بمحاكمة نتنياهو بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة وانتهاكه القانون الدولي، بينما دعمت سلوفينيا وأيرلندا الوقف الفوري لإطلاق النار.

إزاء كل هذه المستجدات التي لم تكن في علم الكاتب، لا بد لأي قارئ حصيف من امتداح مقدرته الفذّة على الاستشراف، ولا سيما بعد أن انكشفت حقيقة النيّات الإسرائيلية اليوم. ويُستدلّ على هذا من عبارته الثمينة إذ قال: ” إن المثقفين الأوروبيين والأميركيين يستطيعون الفهم والتمييز والانتقاد بالطبع، ولا ينقصهم إدراك الحقيقة مهما عملت الجهات السياسية على طمسها أو تحويرها”،

انكشاف الخديعة

حقيقة الأمر أن الحرب على غزّة، بما تضمّنته من وحشية وظلم، أثارت الكثير من النشاطات المناهضة لـ”إسرائيل” في الغرب.

لا شك أن “إسرائيل” حظيت بفرصة دعم دولية نادرة في مختلف المستويات السياسية والشعبية خلال الأيام الأولى لحربها التي شنَّتها ضد قطاع غزة، في أعقاب عملية “طوفان الاقصى”.

وكالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى