قرأتُ لك: كتاب “تشريح الكراهية”
يقدم كتاب “تشريح الكراهية– مسالك العنصرية والتعصب والتحريض في الاجتماع الإنساني الحديث” إطلالة غير تقليدية على هذا الحقل، تتجاوز المنظور النمطي الشائع إلى هذه الظواهر والنزعات كما كانت معهودة في الأمس، فمؤلفه حسام شاكر يباشر في هذا العمل التنقيب عن نزعات وظواهر وخطابات وتواطؤات استجدت ولم يعترف بها بعد كما ينبغي. يكشف شاكر من بعض الوجوه عن صلة الحاضر بالماضي، كما يتجلى مثلا مع خطابات كراهية وعنصرية تقليدية تسللت إلى مجتمعات عصرية تحت عباءة التنوير والعصرنة والمبادئ أحيانا وتمكنت من تثبيت أقدامها وفرض تأثيرات متعددة.
حضور عصري لنزعات قديمة
على مدار 224 صفحة، تتقاسمها 17 فصلا، يشرح الكتاب الجديد كيف تذاكت العنصرية والتعصب والتحريض في إعادة تثبيت أقدامها في الاجتماع الإنساني الحديث، بعد أن سقطت الذرائع السلالية والأوهام العرقية التي استندت إليها من قبل ووقع النقض العلمي لمزاعمها والتبرؤ الرسمي منها. يتولى المؤلف هذه المهمة من خلال مقاربات متعددة في الرصد والتشخيص والتحليل والتفسير، ولا يفوته في مواضع متعددة من الكتاب أن ينبه إلى أهمية التصرف الجاد في مواجهة هذه الظواهر والنزعات التي تعيد إنتاج ذاتها في المجتمعات الحديثة.
يشغل التشريح الأوروبي والغربي فصولا عدة من الكتاب، حيث يفحص المؤلف كيف تتجند نظريات مؤامرة مستجدة في خدمة العنصرية والتحريض، وكيف تستحوذ هذه النظريات الصريحة أو المستترة على نخَب ثقافية وأدبية وسياسية تظهر من مواقع التطرف والاعتدال على حد سواء، مع فوارق في كيفيات التعبير عن هذه المضامين تصريحا أو إيحاء، حسب طبيعة المنصات الثقافية والألوان السياسية.
ماذا بعد العنصريات التقليدية؟
ودّعت البشرية عهد الاستعمار التقليدي وإن بقيت بعض ذيوله، وتجاوزت تقاليد العنصريات التقليدية التي صرحت بالتفوق العرقي والاستعلاء السلالي وأظهرت التعالي على مكونات أخرى من الأسرة الإنسانية أو حتى شركاء الأوطان، فالإعلانات والمواثيق والالتزامات المقررة على المستوى الأممي أعلنت الفكاك من هذه النزعات ونبذتها بوضوح. لكن ذلك لا يعني عجز العنصرية عن الحضور في الاجتماع الإنساني الحديث، فهي مقتدرة على إعادة إنتاج ذاتها مستخدمة تعبيرات متعددة ومستعملة إيحاءات واستعارات شتى تتكيف مع المتغيرات والظروف، كما يورد المؤلف.
تأسيس نظري
باشر حسام شاكر -في كتابه الجديد- وضع تأسيس نظري ذي جدوى في فهم تحولات العنصرية وإعادة إنتاج ذاتها في الحاضر الإنساني، خاصة في بيئات منسوبة إلى الحداثة وما بعدها. فهو يرصد مسيرة تحول غير ملحوظة طرأت من العنصرية التقليدية التي دارت حول التصنيف السلالي واللوني وقياس الجماجم البشرية، إلى “التصنيف الثقافي” الذي أخذ يفرض ذاته بقوة على البيئات الأوروبية والغربية من دون أن يثير شبهة عنصرية عادة، بل إنه يتذرع بالقيم والمبادئ عادة، رغم أنه يستدرج جمهوره إلى تصورات وانطباعات وخطابات ومواقف لا تبتعد كثيرا عن تلك البائدة الذميمة.
يكتشف القارئ أن بعض الظواهر التي تفشت في مراحل مضت في بيئات أوروبية وغربية، مثل “حدائق الحيوان البشرية”، أخلَت المشهد لظواهر وتطبيقات جديدة لا تستثير الاشتباه عادة بإمكانية تورطها في الازدراء والاحتقار والتعالي، لكن التقاليد والممارسات الجديدة ذات حضور أوسع ومفعول أعمق، بالنظر إلى أنها تتفشى عبر ثقافة الصورة والمشهد ووسائط التواصل والإعلام الجماهيرية ولا تبدو صريحة غالبا كما كانت سابقتها.
يتعقب المؤلف عبر فصول الكتاب كيف تتستر العنصرية والتعصب والتحريض أحيانا خلف مقولات محبوكة وذرائع منسوجة وأقنعة مضللة، فتعيد إنتاج ذاتها في زمن الشعارات المبدئية والالتزامات الأخلاقية وقد تتعالى على قابلية التشخيص وتعطل فرص المساءلة، على نحو يجعلها تحديا جسيما لمجتمعات الحاضر والمستقبل.
على مشرحة النقد
ما قام به حسام شاكر في كتابه الجديد هذا يضع المجتمعات الإنسانية الحديثة على مشرحة النقد، ويرصد قدرة العنصرية أينما تفشت على “ابتلاع مجتمعها”، وكيف يتأتى لتجاوزات الكراهية والتعصب أن تجرف جمهورها إن رضخ لمنطقها. يتتبع شاكر مقدمات الانتهاكات الجسيمة ومنابت ممارسات التوحش التي تفتك بالبشر، عبر تحليل تصورات محمولة في الرؤوس وخطابات متأججة بالتحامل والتحريض، وبعض هذه الممارسات تخللت الواقع العربي والإسلامي
يتضمن الكتاب قراءة فاحصة لمدى التدهور الذي تشهده بيئات ديمقراطية عريقة من خلال استبداد نزعات عنصرية ظاهرة أو مستترة بمواسمها الانتخابية مثلا، أو عبر تغليف ممارسات الذم وخطابات الكراهية والتعبيرات العنصرية التي كانت معهودة سابقا بقيم سامية ومبادئ نبيلة، مثل حرية التعبير، فتوفر لها هذه الذرائع حصانة من النقد وسلامة من الاشتباه.
المصدر: الجزيرة + وكالات