كردستان في قلب الجغرافيا المتوترة
في خضم التصعيد العسكري الخطير بين إسرائيل وإيران، يبرز إقليم كردستان العراق كموقع جيوسياسي حساس في قلب منطقة ملتهبة، يتقاطع فيها النفوذ الإيراني، والمصالح الإسرائيلية، والتوازنات الإقليمية المعقدة. فالإقليم الذي يتمتع بحكم ذاتي منذ تسعينيات القرن الماضي، تربطه علاقات دقيقة مع طهران من جهة، وفتور محسوب تجاه تل أبيب من جهة أخرى، رغم ما يُثار من تقارير استخباراتية متكررة عن وجود قنوات تواصل غير رسمية بين كردستان وإسرائيل، تعود جذورها إلى عقود مضت.
فمن جهة، تشكل إيران واحدة من أهم الدول المجاورة للإقليم، وترتبط معه بعلاقات أمنية وتجارية، لكنها تراقب بعين الريبة تنامي نزعات الاستقلال الكردي. ومن جهة أخرى، تنظر إسرائيل تاريخيًا إلى الأكراد كحليف محتمل في محيط عربي وإسلامي معادٍ. وبين هذا وذاك، يحاول إقليم كردستان التزام سياسة التوازن الحذر، للحفاظ على أمنه واستقراره وسط إقليم تتصارع فيه الدول الكبرى والإقليمية.
وفي ظل التصعيد العسكري الحالي بين إسرائيل وإيران، تتعاظم المخاوف من تداعيات مباشرة على كردستان، سواء على مستوى الأمن الداخلي، أو التدخلات الإقليمية، أو حتى محاولات استخدام أراضيه كمنصة أو ممر في لعبة النفوذ الكبرى.
بيان رئاسة الإقليم: تحذير من تداعيات كارثية
في هذا السياق، أصدرت رئاسة إقليم كردستان بيانًا رسميًا، اليوم الجمعة، أدانت فيه الهجوم العسكري الإسرائيلي على إيران، معتبرة أن “استخدام القوة لحل النزاعات يمثل تهديدًا مباشرًا للأمن الإقليمي والدولي”. وأعرب البيان عن قلق عميق من أن يؤدي هذا التصعيد إلى تفجير المزيد من الأزمات في منطقة تعاني أصلًا من هشاشة الاستقرار.
وجاء في البيان:
“ندين بشدة الهجوم الإسرائيلي على جمهورية إيران الإسلامية، ونرى أن اللجوء إلى الحلول العسكرية لا يزيد الوضع إلا تعقيدًا. هذه الأحداث تمثل تصعيدًا خطيرًا يهدد استقرار المنطقة بأكملها، وقد تكون له انعكاسات كارثية على الأمن الدولي كذلك”.
كما دعت رئاسة الإقليم المجتمع الدولي إلى “رد فعل سريع وفعال”، محذّرة من أن “السكوت على هذا التصعيد قد يؤدي إلى تفاقم التوترات بصورة غير قابلة للسيطرة”. وأكدت على أن مسؤولية وقف التصعيد تقع على عاتق جميع القوى الكبرى، التي ينبغي أن تتحرك لحماية النظام الإقليمي ومنع نشوب حرب شاملة في الشرق الأوسط.
السياق السياسي بين كردستان وإيران وإسرائيل
العلاقات بين إقليم كردستان وإيران تتراوح بين الشراكة الأمنية والارتياب السياسي. فبينما ساهمت إيران في دعم حكومة الإقليم في مراحل مفصلية – خصوصًا في مواجهة تنظيم داعش – فإنها بالمقابل ترفض أي تحركات انفصالية أو تقاربات محتملة بين الإقليم وتل أبيب، التي تعتبرها طهران خصمًا استراتيجيًا.
أما إسرائيل، فترى في الأكراد “أمة بلا دولة” تشترك معها في خصائص الأقلية والاستهداف الإقليمي، وقد أبدت تأييدها الضمني للاستفتاء على الاستقلال الذي أجراه الإقليم عام 2017، وهو موقف زاد من توتر العلاقات بين بغداد وكردستان من جهة، وبين طهران وأربيل من جهة أخرى.
تاريخيًا، كانت تقارير غربية قد تحدثت عن وجود تعاون استخباراتي بين تل أبيب وأربيل، خاصة في مجالات الاستطلاع وتبادل المعلومات، الأمر الذي تنفيه دائمًا السلطات الكردية، مؤكدة التزامها بسيادة العراق وعدم التدخل في نزاعات القوى الإقليمية.
الاحتمالات المستقبلية وتأثيرات الحرب على الإقليم
في حال تصاعدت الحرب بين إيران وإسرائيل إلى مواجهة مباشرة ومفتوحة، فإن إقليم كردستان مرشح أن يكون أحد أكثر المتضررين في شمال الشرق الأوسط، وذلك لعدة أسباب:
موقعه الجغرافي القريب من الحدود الإيرانية، ما يجعله عرضة لأي عمليات عسكرية عابرة أو ردود فعل انتقامية.
الوجود العسكري الأمريكي في بعض قواعد الإقليم، قد يدفع إيران إلى استهداف تلك القواعد كما فعلت سابقًا في قاعدة “عين الأسد” ردًا على مقتل قاسم سليماني.
الاضطرابات الاقتصادية الناجمة عن إغلاق طرق التصدير مع إيران، أو تراجع الاستثمارات بسبب تدهور الأوضاع الأمنية.
احتمالات استغلال الجماعات المسلحة للوضع المتوتر لشن هجمات داخل أراضي الإقليم، خاصة في المناطق المتنازع عليها مثل كركوك وسنجار.
الدعوة إلى التهدئة ليست حيادًا
موقف رئاسة إقليم كردستان من التصعيد الإيراني الإسرائيلي لا يعكس فقط رغبة في التهدئة، بل يعبّر عن حالة قلق عميق من أن يتحول الإقليم إلى ساحة لتصفية حسابات لا ناقة له فيها ولا جمل. وبين ضغوط الجغرافيا، ومصالح الاقتصاد، وحسابات الأمن، يبدو أن أربيل تسير فوق حقل ألغام دبلوماسي، وتحتاج إلى حكمة بالغة لتفادي الانزلاق في صراع لا تملك أدواته ولا تتحكم في نتائجه.
وعليه، يبقى السؤال الأكبر: هل سينجح إقليم كردستان، ومعه القوى الإقليمية والدولية، في احتواء هذا التصعيد قبل أن تتحول المنطقة بأكملها إلى ساحة حرب شاملة؟ أم أن صمت المجتمع الدولي سيفتح الباب أمام فوضى استراتيجية، ستكون فيها كل الجبهات خاسرة؟