بحوث ودراسات

د. أحمد زكريا يكتب: مصالح الأنام في تنوع الرؤى والأفهام

إن مما يؤرق الكثير من إخواننا وجود خلافات في الرؤى بين قيادات العمل الإسلامي، يصل إلى حد التباين والخلاف الحاد في وجهات النظر، حول آليات وأساليب العمل لهذا الدين، وبخاصة إذا كان الخلاف بين قيادات فصيل واحد، طالما كان رأيهم واحدا، ورؤيتهم متقاربة.

ولما تعلقت القلوب بهؤلاء القادة، وارتبطت بهم حبا وتمسكا، شق عليها أن ترى تفرقهم، وأن يصبح لكل منهم وجهة مختلفة، وهم القادة والرموز الذين تربينا على أيديهم، وعلمونا أن للجماعة راية فكرية واحدة.

ولتوضيح هذا الأمر – كما أراه- أردت أن أتكلم عن مشروعية الخلاف في الأمور الاجتهادية، وأن هذا الاختلاف البعيد عن الثوابت مطلوب لإثراء الساحة الدعوية، وإظهار رؤى متعددة تصلح لكل فصيل ولكل زمان، بما يناسب الزمان والمكان والأشخاص.

وكلما كبرت الجماعة الدعوية، وبلغ شيوخها درجة كبيرة من العلم والتمرس في مجال الدعوة، لابد أن تتعدد رؤيتهم، ولن يكونوا أبدا نسخا كربونية، وهذا واضح في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الكبار قديما، والتابعين ومن بعدهم، ويظهر في جماعة الإخوان المسلمين واضحا.

الجماعة الإسلامية

وأظن أن الجماعة الإسلامية أصبحت جماعة كبرى بتاريخها العريض، وقياداتها الرشيدة، فلا عجب من اختلاف الرؤى، وتعدد الاجتهاد، مع بقاء الحب والإخوة بين القادة، والاحترام والتقدير من أبناء الجماعة لكل القادة، ولعل ذلك ظهر واضحا جليا -وهذا يدل على المعدن النفيس لأبناء الجماعة الإسلامية، قادة وأفرادا- عندما تطاول المدعو ممدوح إسماعيل على قامتين سامقتين من رجال الدعوة والعمل لهذا الدين، بكلام بذيء نعرض ترفعا عن الخوض فيه، وقد قام إخواننا بالرد عليه.

وجدنا الجماعة قادة وأفرادا تنتفض دفاعا عن شيوخها الأكارم الأجلاء، فيصدر مجلس الشورى بيانا، ويكتب الشيخ أسامة حافظ مقالا رائعا، يظهر فيه فضل أهل الفضل.

ولذلك أقول لإخواني: من حق مشايخنا أن يجتهدوا، وأن تكون لهم رؤى مختلفة، وحبنا لهم جميعا لا يتخلف.

وننصحهم، وهذا حقهم علينا، أن يحرصوا على التقارب بينهم، وأن يجعلوا خلافهم في أضيق الحدود.

هذه مقدمة بين يدي هذا الموضوع، حتى نضع الأمور في نصابها، ولا نحمل الأمور أكثر مما تحتمل.

فالاختلاف هو: أن ينهج شخصان فأكثر طريقين متغايرين، في القول، أو الفعل، أو الحال.

وهو أمر فطري جِبِلِّي بين الناس، نظراً لوجود الفوارق الفردية بينهم، في القدرات، والفهم، والتصور، والاستيعاب، ومنهج النظر، والتفكير، والقدرة على العمل، فضلا عن المؤثرات الأخرى البيئية، والثقافية، والاجتماعية..، قال اللّه تعالى في الآية 118-119 من سورة هود: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين· إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}.

فرق هائل بين التنوع والتضاد

لابد من القول: إنه ليس كل اختلاف أو خلاف هو مشروع ومرضي عنه، بل هناك اختلاف مذموم، وآخر مشروع مقبول: فالاختلاف المذموم ما خالف صريح الوحي الإلهي من كتاب أو سنَّة، وفرَّق الدين، ومزّق الأمة، دافعُه الهوى والأنانية والغايات الشخصية، وهذا هو الذي حذَّر منه الإسلام، ونهى عنه القرآن، سواء كان في العقائد وأمور الديانات، والثوابت العامة من الشريعة، قال اللّه تعالى في الآية (31-32 من سورة الروم): {ولا تكونوا من المشركين· من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيَعاً كل حزب بما لديهم فرحون}، وفي آية أخرى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله م الصابرين} (سورة الأنفال -46).

وعلى هذه الأمثلة ونحوها تُحمّل نصوص الشريعة وأقوال العلماء الناهية عن الاختلاف الموجبة لتجنٌبه وتركه، قال عبد الله بن مسعود: (الاختلاف شر). وهو لم يقصد إلا هذا النوع من الاختلاف.

أما الاختلاف المشروع المقبول، فهو في فروع الشريعة وأحكامها الفقهية، وأمور المباحات ونحوها، مما لا يبعد عن رضوان اللّه تعالى في طلب الحق والبحث عنه، وذلك من خلال إعمال العقل والفهم للوصول إلى إسعاد الناس، وتحقيق مصالحهم، والسعي إلى حماية أرواحهم وأعراضهم وممتلكاتهم، وتيسير أسباب الحياة الكريمة لهم.

الاختلاف المشروع: هو اختلاف فطري يتفاعل مع المعطيات وينطلق على السجية من المدارك والعقول، من أجل إعمار الكون وازدهار الحياة، واستمرار الوجود الإنساني إذ كل إنسان ميسَّر لما خُلِقَ له.

نماذج من اختلاف خير القرون

تروي كتب السنن والسيرة الكثير من المواقف والحوادث العملية التي وقع فيها الاختلاف في سلف هذه الأمة المباركة، لكنه بقي ضمن حدوده المباحة المشروعة، وأخرج أصحابه – المسلمين من بعدهم – من ضيق الأفهام إلى سعة الإسلام، ومن حنق النفوس إلى ألفة القلوب، ومن العسر إلى اليسر، ومن(الشخصانية) إلى الموضوعية، ومن الوقوف عند تفكير الفرد والاقتصار عليه إلى البحث عن مصلحة الأمة والتيسير عليها.

ولعل أشهر حادث اختلاف وقع بين المسلمين في العصر النبوي، ما أخرجه الشيخان:( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه عقب غزوة الأحزاب:

لا يُصَلَّيَنَّ أحدُ منكم العصر إلا في بني قريظة، فأدركهم العصرُ في الطريق وخافوا أن يفوتهم ولا يصلُّونه، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتي بني قريظة، تنفيذاً لأمر النبي، وقال آخرون: بل نصلي في الطريق، لأنه لم يُردْ منا إلا التعجٌل والسرعة،

واللّه تعالى يقول: في الآية 103 من سورة النساء {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} ففعل كل منهما ما شاء، ثم ذكروا ذلك للنبي فأقرَّ الفريقين، ولم يعنِّف أحداً منهما).

وهكذا وسع كل فريق ما فعله الفريق الآخر وخالفه فيه، وعّذر بعضهم بعضا، لما عنده من حجة فهمها من فحوى النص النبوي ومقاصده، أو ظاهره وحرفيته.

وفي حادث آخر يتصل بأهم العبادات في الإسلام، وهو الصلاة- التي قد يُظنُ أنها أُديتْ عمدا مع الجنابة – روى أبو داود وغيره، عن عمرو بن العاص قال:

(احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت لأصلي الصبح أن أهلك من شدة البرد، فتيممت لأصلي بأصحابي، فأبوا أن يصلوا ورائي، وقالوا: كيف تصلي وأنت جنب والماء موجود، فتحاججنا، ثم صلّوا ورائي، وذكروا ذلك للنبي فقال: يا عمرو، كيف صليت الصبح بأصحابك وأنت جنب؟ قلت: يا رسول الله، تذكرت قول الله تعالى في الآية 29 من سورة النساء: {ولا تقتلوا أنفسكم إن اللّه كان بكم رحيما} فتيممت وصليت، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا).

وبهذه الروح من السماحة، وسعَ المخالفون صاحبهم عمرو بن العاص، فيما اجتهد فيه وذهب إليه، ولم يضق بعضهم ذرعاً ببعض، واستمرت أُلفتهم وصحبتهم، وبقي كل منهم على رأيه وتمسك بقناعته، بدليل عرض موضوع الخلاف مجدداً على النبي صلى الله عليه وسلم.

وقائع من اختلاف الصحابة في قضايا خاصة وعامة:

لم يقتصر الاختلاف على ما سبق ذكره – لأن أسبابه الفطرية والخلقية والفقهية والثقافية، لا يمكن أن تزول وتمحى- بل استمر الخلاف بين الصحابة أيضا في عهد الخلفاء الراشدين، وكأن من أشهر صوره ووقائعه، اختلافهم في قضية دينية ذات طابع سياسي، وهي: فيمن يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في رئاسة المسلمين، ثم ما لبثوا أن اتفقوا على تولية أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

واختلفوا أيضا في قتال مانعي الزكاة، وأدلى كل منهم بحجته، ثم اتفقوا على قتالهم، كما اختلفوا في تقسيم أراضي العراق، المعروفة بسواد العراق، وأصرّ كل فريق على موقفه، ولم يُفسد ذلك الخلافُ الذي وقع المودة فيما بينهم.

بل إن هناك الكثير من القضايا الفرعية الفقهية ذات الطابع التعبدي، والمالي والاقتصادي، والأسري، والاجتماعي، والسياسي، والقضائي، والجنائي، وغير ذلك مما وقع فيه الخلاف بين الصحابة ومن بعدهم، مما هو معروف في مواضعه ومراجعه.

ومما ذكروه في ذلك الخلاف بين عمر وعلي رضي الله عنهما فيمن أجهضت خوفاً من عمر، والخلاف بين عمر وابن مسعود فيمن زنا بامرأة ثم تزوجها، وخلاف عثمان وعلي في كيفية توزيع مقادير الفيء على عموم المسلمين، وخلاف زيد بن ثابت وابن عباس رضي الله عن الجميع في توريث الإخوة مع الجد.

ضوابط الاختلاف

وشاع نحو ذلك في الكثير من القضايا التي وقعت في عصر التابعين ومن بعدهم، في أمور المال، والسياسة، والاجتماع، والقضاء.. حتى نشأ لكل مجتهد مذهب فقهي ذو منهجية مستقلة في الاستنباط والتخريج، وما كان أحدهم يعيب على الآخر، ولا يسفه قوله، ولا ينقص من قدره، بل كان جميعهم يسعُ جميعهم، ويرفع بعضهم من قدر بعض، لأن الهوى والتشهي لم يكونا مطية لأحد منهم ولا قصدا له، بل كان الحق رائدهم، وأخوة الإسلام تجمع بينهم.

ولعل من المناسب هنا ذكر الرسالة التي بعث بها الليث بن سعد فقيه أهل مصر وإمامهم، إلى مالك بن أنس عالم بلاد الحجاز وإمام أهل الحديث فيها، ويعرض فيها وجهة نظره في أدب رفيع وأسلوب راقٍ، في الكثير من القضايا والمسائل التي اختلفا فيها.

قال الليث بن سعد يرحمه الله: سلام عليك فإني أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلا هو، أما بعد: عافانا اللّه وإياك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة، وقد بلغني كتابك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني، فأدام اللّه ذلك لكم، وأتمه بالعون على شكره والزيادة في إحسانه..

ثم يقول: وإنه بلغك أني أفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه الناس عندكم، وإني يحق عليّ الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي على ما أفتيتهم به، وإن الناس تبع لأهل المدنية، التي كانت إليها الهجرة وبها نزل القرآن، وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك إن شاء الله تعالى، ووقع مني بالموقع الذي تحب، وما أجد أحدا ينسب إليه العلم إلا كره شواذ الفتيا.

ثم يقول: ونسأل اللّه أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا به، وتمام ما أنعم به علينا، والسلام عليكم ورحمة الله.

قواعد وآداب الاختلاف

إن من يتتبع النصوص الشرعية يجد مدى حرصها على توحيد الكلمة ما وجد إلى ذلك سبيلا، والبعد عن الاختلاف قدر الإمكان، لأن الأصل في دعوة الإسلام الاتفاق لا الاختلاف، ومما يؤيد هذا ما رواه الشيخان أن النبي قال لـمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري حينما بعثهما إلى اليمن:(يسّرا ولا تعسًّرا، وتطاوعا ولا تختلفا).

فإن عزّ الاتفاق ووقع الاختلاف وكان لا مناص منه، تأكد الالتزام بأحكام الإسلام وآدابه،

ومن ذلك ما يلي:

1- تجنب الجدل البغيض والبعد عن المماراة والانفعال، وذلك لقوله تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن}، النحل- 125، وقوله: (إن أبغض الرجال إلى اللّه الألدُ الخَصِم)، رواه الشيخان، والألد الخصم: شديد الخصومة المولع بها.

2- الالتزام بالكلم الطيب، والترفع عن ألفاظ السوء، وعن التعرض بالآخرين وذمهم وقدحهم، أو التنقص من قدرهم، لقول اللّه تعالى في سورة الحجرات الآية -11: {لا يسخر قوم من قوم…}، وقوله تعالى في الآية نفسها: {ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب..}.

3- احترام الرأي الآخر، والتأدب مع أصحابه وإحسان الظن بهم، والثناء عليهم أمام الناس، والتواصل معهم، وذلك لقوله تعالى في سورة الحجرات في الآية 12: {اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم}، وقوله في الآية 10 من سورة الحجرات: {إنما المؤمنون إخوة}.

وذكروا: أن رجلا جاء إلى زهير بن معاوية الجعفي الكوفي – أحد كبار السلف- فقال له زهير: من أين جئت؟ قال الرجل: من عند أبي حنيفة، قال زهير: إن جلوسك مع أبي حنيفة يوماً أنفع لك من جلوسك معي شهرا، وهكذا عرَّف زهير بقدر غيره وجهر به أمام الآخرين، وحضهم على الاستفادة منه، مع أنه كان يخالفه في الرأي في كثير من القضايا والمسائل.

4 – الرجوع إلى الرأي الآخر إن كان حقا، والعدول إليه حال تبين صوابه، كتب عمر لأبي موسى الأشعري:

(لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه عقلك، وهديت فيه إلى رشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل).

ثمرات الاختلاف ومنافعه

للخلاف المشروع- السابق بيانه وبيان أحكامه وآدابه – منافع وفوائد لا تنكر، ومن ذلك ما يلي:

1- فتح المجال أمام الفكر الإنساني إلى الافتراضات التي تستطيع العقول المختلفة الوصول اليه، قال اللّه تعالى في الآية 21 من سورة الحشر: {وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون}

2- إتاحة الفرصة أمام الطاقات الذهنية والبدنية المبدعة لخدمة الإسلام والأمة، وفي الحديث الذي رواه الطبراني وغيره: (اعملوا فكلُّ ميسٌر لما خُلِق له)، وفي حديث آخر:

(الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها أخذها) رواه الترمذي·

3- إيجاد الحلول المتعددة في واقعة من الوقائع ليهتدي فيها إلى الحل الشرعي المناسب الذي يعالج مشكلات الناس·

4- الدلالة على سماحة الدين ويسره وانفتاحه على الحياة واستيعابه لمستجداتها.

وأخيرا أقول:

إنه لا ينبغي لأحد أن يضيق بآراء الآخرين وأقوالهم، ماداموا يستقونها من النبع الحق، وما دامو مؤهلين لما يبحثون فيه أو يدرسونه أو يعالجونه، وإن ترك ذلك اختلافا في الرؤى والنتائج والاختيارات، قال ابن برهان الشافعي:

إن الشرائع سياسات يدبر الله تعالى بها عباده والناس مختلفون في ذلك بحسب الأزمان فلكل زمان نوع من التدبير، وحظ من اللطف والمصلحة تختص به، كما أن لكل أمة نوعا من التدبير يصلحهم.

كما أن من أهم الواجبات – في الوقت عينه – العلم بأن المحافظة على الأخوة الإسلامية، ووحدة العمل في الساحات الدعوية، وصد العدو المشترك، ونبذ الاختلاف والتفرق قدر الإمكان، من أوجب الفرائض التي شرعها الله تعالى ومن أهمها، وصدق الله العظيم القائل: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين} الأنفال -46.

نسأل الله أن يؤلف بين قلوبنا أجمعين، قادة وأفرادا، وأن ييسر لنا خدمة هذا الدين، وأن يجعلنا عونا لإخواننا ولأوطاننا.

د. أحمد زكريا

كاتب وباحث

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى