محمد أحمد سليمان يكتب: خاطرتي عن قضية البيان
التحقت بسلك القضاء عام 2001 أي أنني قضيت في سلك القضاء خمسة عشر عاماً وتشاء الأقدار أن يكون يوم استلامي العمل معاوناً للنيابة العامة بنيابة أبنوب والفتح يوم 2/4/2001 هو ذات اليوم الذي أكتب فيه خاطرتي الآن بعد عزلي من القضاء مرفوع الهامة راضياً عن تلك الفترة التي قضيتها متشحاً بوشاح القضاء.
**طيلة الخمسة عشر عاماً خلا ملفي من شكوى واحدة من مواطن أو متقاض أو محام أو زميل أو جار إلا أنه في عام 2005 و بعد أربعة أعوام من تعييني حيث كنت وكيلاً للنائب العام في السادسة و العشرين من العمر أحالني النائب العام ماهر عبد الواحد للتحقيق بعد إدلائي بشهادتي للجنة تقصي الحقائق التي شكلها نادي القضاة حينئذ -وقت أن كان للقضاة ناد- لكشف الانتهاكات التي شابت الإشراف على الاستفتاء على تعديل المادة 76 من دستور 1971 التي عدّلت طريقة انتخاب رئيس الجمهورية من الاستفتاء إلى الانتخاب حيث لم تكن كل لجان الاقتراع برئاسة قضاة بل كان أغلبها من غير القضاة و حدث في بعضها تلاعب.
مارس النائب العام حينها عليّ ضغوطاً كبيرة قد لا يحتملها الآن قيادات في النيابة العامة لإجباري على سحب شهادتي بعد تقديمها وبعدما رفضت كل الضغوط أحالني للتحقيق بمعرفة التفتيش القضائي
سافرت إلى القاهرة ولا تفارقني الآية الكريمة {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} وبالفعل كان في عبارة حسبنا الله ونعم الوكيل صدق موعود الله.
وقف نادي القضاة حينها إلى جانبي وقت أن كان دور النادي الدفاع عن استقلال القضاة وحماية كرامة أعضائه من عسف السلطة وكان لهم فضل بعد فضل الله في إنهاء الأزمة وأخص بالذكر المستشارين زكريا عبد العزيز وناجي دربالة وهشام جنينة وأحمد صابر وجميعهم أحيلوا للمعاش بأحكام مجلس الصلاحية بعد 3-7-2013 بينما عُزل المستشار جنينة من منصبه كرئيس للجهاز المركزي للمحاسبات.
** طلبني النائب العام في مكتبه فذهبت وواجهته وخرجت من مكتبه منتصراً مرفوع الرأس في الوقت الذي كان فيه السادة المحاصرون لمكتب النائب العام الجليل طلعت عبد الله يخشون من مجرد المرور أمام مكتب النائب العام.
قرر النائب العام حينها العدول عن قرار إحالتي للتحقيق وكان فضل الله عليّ عظيما
شاركت في اعتصام القضاة بناديهم دفاعاً عن كرامة القضاة واستقلالهم وقت إحالة المستشارين محمود مكي وهشام البسطويسي لمجلس التأديب لمطالبتهما بالتحقيق في وقائع تزوير انتخابات 2005 وتركنا مساكننا وافترشنا الأرض بنادي القضاة ولم نكن ندري أنه سيأتي على القضاء أيام يبدي فيها القضاة الشماتة والفرح لعزلنا إرضاء للطغاة.
شاركت فئات كثيرة من أبناء الشعب المصري في مساندتنا وكانت هتافاتهم إن في مصر قضاة لا يخشون إلا الله، ويا قضاة يا قضاة خلصونا من الطغاة وسام على الصدور، وما كنا ندري أنه ستأتي على مصر أيام يكون فيها من بين القضاة من لا يخشى حتى الله، أو أن يكون القضاة هم من يجلبون الطغاة لا من يخلصون الناس من شرورهم.
كتبت ذكرياتي عن اعتصام القضاة في مقالة بمجلة نادي القضاة وقتها بعنوان أيام يحبها الله.
بعد اندلاع ثورة يناير المجيدة ونجاحها في الإطاحة بمبارك تملكني الإحساس أن مصر التي كنا نحلم بها قد أقبلت فعزمت على ألا أكون أبداً إلا مديناً لتلك الثورة ومحققاً لآمال وتطلعات شعبها قدر استطاعتي.
شاركت في الإشراف على انتخابات مجلس الشعب في نهاية عام 2011 و كانت الانتخابات الأنزه في تاريخ انتخابات المجالس النيابية و حرصاً مني على نجاح التجربة الديمقراطية الوليدة و لضمان عدم التلاعب في صناديق الانتخابات ولطمأنة الناخبين فقد قررت المبيت في لجنة الانتخابات التي كنت أشرف على الانتخابات بها في إحدى قرى محافظة أسيوط في أجواء شديدة البرودة فطلبت من أحد موظفي اللجنة وسادة ومفرش للنوم وافترشت الأرض بعد تشميع الصناديق في وجود مندوبي المرشحين وسعادتهم وانبهارهم بتركي فندق المبيت ذات الخمس نجوم والعشاء الفاخر وتفضيل المبيت باللجنة.. ولكنه كان الأمل في غد مختلف اغتيل قبل مولده.
تم ندبي للعمل رئيساً بنيابة النقض عام 2012 بعد ثلاث سنوات فقط من جلوسي على المنصة بعدما كان لا يُنتدب أحد لنيابة النقض إلا من يجلس على المنصة أربع سنوات، والمفارقة أن أحد أعضاء اللجنة التي أجرت المقابلة معي ووافقت على ندبي لنيابة النقض كان من ضمن المبلغين عن قضاة البيان مطالباً بعزلهم.
جاء الثلاثين من يونيو وبمقتضاها تم الانقلاب على أول رئيس مدني منتخب انتخابا نزيهاً حقيقياً شهد له العالم وتم تعطيل العمل بدستور 2012 وإلغاء مجلس الشورى المنتخب وبدأت أنهاراً من الدماء تسيل في شوارع قاهرة المعز وبعض الأقاليم.
ظهرت في الأفق بادرة إصدار بيان باسم قضاة تيار الاستقلال لإدانة إهدار سيادة القانون وإلغاء نتائج الاستحقاقات الانتخابية التي أشرف عليها القضاة ويعلمون صدق نتائجها، ولأن إعلان نتائج انتخابات يشرف عليها القضاة هي بمثابة حكم لا يملك أحد أن يلغيه بجرة قلم لمجرد أنها لم تكن نتائجها على هوى البعض.
سعيت على الفور للمشاركة في إصدار البيان ووضع اسمي عليه لما تضمنه من الدعوة لاحترام الدستور والقانون واحترام إرادة الأمة التي أفرزتها الصناديق والدعوة لنبذ العنف وحقن الدماء وإجراء مصالحة وطنية تضمن الخروج بالوطن من أزمته التي أحدثتها المؤامرة وتم إلقاء البيان من المركز الإعلامي بشارع الطيران يوم 24 / 7 / 2013.
لم تكن مشاركتي في إصدار البيان من قبيل حرية الرأي وإنما كان دفاعاً عن حق وجهر به فالرأي يحتمل الوجهتين وكلاهما له سند أما الحق فمعارضته باطل، فمعارضة الدعوة لاحترام الدستور والقانون هي دعوة لشريعة الغاب ومعارضة الدعوة لحقن الدماء هي دعوة لسفكها وللاحتراب ومعارضة الدعوة للمصالحة هي دعوة للاحتراب الأهلي.
في ذات يوم إلقاء البيان اجتمع الزند ورجاله في نادي القضاة وأصدروا قراراً بشطب عضويتي وباقي قضاة البيان من نادي القضاة وحرماننا من خدماته.
في اليوم التالي لإلقاء البيان قدم الزند ورجاله بلاغاً للنائب العام ومجلس القضاء الأعلى تعبر كلماته عن أشخاصهم وتنضح بما فيهم.
بعد يومين من إلقاء البيان اتصلت بي مديرة مكتب السيد المستشار مدير نيابة النقض تبلغني برغبة المستشار في مقابلتي في اليوم التالي فأدركت أنه سيخبرني بإنهاء ندبي وعودتي للمحاكم فتوجهت له وطلب مني مذكرة بشأن ورود إسمي بالبيان وما إذا كنت شاركت فعلاً أم لا فحررت له مذكرة أقر فيها بالمشاركة في البيان إيماناً مني بأن عماد عمل القاضي هو الدفاع عن الدستور القانون وتوقعت إنهاء ندبي و قبلت ذلك حسبة لله وحده ولم أكن أتوقع أن يكون الظلم أكثر من هذا رغم عدم استبعادي لأي إجراءات إنتقامية أخرى كل هذا ولم أفكر لحظة في التراجع بل زاد إصراري على المواجهة.
بالفعل تم إنهاء ندبي من نيابة النقض قبل نهاية العام القضائي في إجراء غير معتاد.
تم ندب قاض للتحقيق هو محمد شرين فهمي بإجراء مخالف للقانون وباشر التحقيق وقام بطلبي لسؤالي فيما جاء ببلاغ الزند وصحبه، فقمت بتوكيل أحد المستشارين لطلب الحصول على صورة من التحقيقات لكي أتمكن من الرد على ما نسبه لي الشاكون إعمالاً لحقي القانوني إلا أنه تعنت وخالف القانون ورفض وعليه رفضت المثول أمامه.
قام بمنعي من السفر ضمن ثلاثة عشر قاضياً بدون سند قانوني ولا مدة محددة ولا بيان لسبب استبعاد هؤلاء القضاة تحديداً دوناً عن الخمسة وسبعين قاضياً الذين أصدروا البيان ولا يوجد تصور لقراره هذا إلا أنه قام بإجراء القرعة بينهم فخرج بهذا القرار.
بعد منعي من السفر كنت في مكتب أحد مساعدي الوزير الذي تركني للوضوء وكان التلفاز بمكتبه ينقل الصلاة من المسجد الحرام فنظرت إلى التلفاز وذرفت عيناي بالدموع شوقاً لزيارة بيت الله الحرام وقبر نبيه صلى الله عليه وسلم والذي منعني منه ذلك القاضي فدعوت الله حينها أن ينتقم منه بقدر ما حرمني.
تمت إحالتي للمعاش بحكم مجلس تأديب أول درجة دون سماع مرافعتي ولا مرافعة غيري من القضاة وبعد مراوغة من رئيس ذلك المجلس بشأن إلغاء قرار المنع من السفر أو تمكيننا من الطعن بالتزوير على محضر تحريات الأمن الوطني ظاهر التزوير والكذب.
قمت بالطعن على ذلك الحكم أمام مجلس التأديب الأعلى الذي يرأسه رئيس محكمة النقض ورئيس مجلس القضاء الأعلى والذي سألني عن سبب مشاركتي في إصدار البيان وعندما أجبته من ضمن ما قلته الدعوة لحقن الدماء ونبذ العنف فسألني عدة مرات عن سبب دعوتي لحقن الدماء وما شأني كقاض بذلك فقلت له «من لم يهتم بأمر المسلمين» «فانتفض قائلاً: «آآآه المسلمين لا دي حاجة تاني» ثم سارع بتكليف السكرتير بإثبات أنني شاركت في إصدار البيان اهتماماً مني بأمر المسلمين وكأن الاهتمام بأمر المسلمين صار جريمة.
صدر الحكم بإحالتي للمعاش بعد حملة طويلة من التشويه والتدليس والأكاذيب شُنت على قضاة البيان سواء من قضاة الزند أو ممن أطلقوا على أنفسهم رجال إعلام وصحافة. حملة تنوء منها الجبال لكن الحمد لله أن منحنا القوة والثبات على مواجهتها والانتصار عليها.” (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا)
رسالتي لمن يقول ها أنتم قد أصدرتم بيانكم منذ قرابة الثلاثة أعوام ولم يستجب أحد لتوصياتكم بل ترتب عليه عزلكم أقول له {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}
رسالتي لمن ظلمني: يا من ظننت أن القلوب قد انكسرت وأن الدموع قد نفذت وأن الآمال قد انقطعت خانك قلبك وخانك إحساسك كما خانك ضميرك يوم أن خانك شيطانك فتركك لذئاب التجبر فريسة.
أما علمت أن في داخلنا أحشاء تعزف ليل نهار لحناً رنيمه يا الله يا ناصر المظلوم انصرنا على من ظلمنا.
أما علمت أن لسان صمتنا يتكلم ويقول اللهم انتقم ممن ظلمنا.
لو علمت كم زاد ظلمك لقضاة البيان قرباً من الله وصبراً وثباتاً لقاتلتهم على ذلك بالسيوف.
لو علمت كم زاد حب قضاة البيان لله المنتقم وكم زاد حب الرحمن لهم لذهب عقلك هباء منثورا.
لو تعلم كم زاد ظلمك لقضاة البيان إيماناً واحتساباً وتفاؤلاً لتمنيت ألا تعرف للظلم طريقاً.
لو علمت كم تاقت روح قضاة البيان ليوم النصر لتمنيت أن تقطع حبال الأماني.
سألتقيك يوماً ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ۗ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا﴾.
رسالتي لكل حر مظلوم مكلوم في هذا الوطن (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب)
رسالتي لوالديّ من ربياني على الجهر بالحق وعدم الخنوع أو الاستسلام لظالم فلن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا أقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
أقُول لزوجتي {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.
أقول لأبنائي «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا».
رسالتي للجميع:
نعم شاركت في إصدار البيان و أفتخر بل وسأضعه على جدران بيتي، شاركت احتراماً لنفسي، شاركت لأجل نفوس قضت نحبها في سياق عبثي مظنة ما أُطلق عليه زوراً وبهتاناً بمنهج الديمقراطية وحرية التعبير، شاركت لأجل قتل أبرياء عزل تحت نعت مكذوب بالإرهاب والتطرف.
قتل أُلبس عباءة مهترئة تم نسج أوصالها بأهواء لا تركن إلى عدل ولا تتوخى موضوعية، شاركت لما يُحاك بالوطن من مزاعم قد لا تقرها ضمائر من تلهج ألسنتهم بالترويج لها.. شاركت وأفتخر.. شاركت ولو كان بيدي لوضعت البيان في قبري بيني وبين كفني حتى ألقى به ربي.
يوماً ما سأوثق شهادتي عن قضية البيان. لن أدعهم يزورون التاريخ.
القاضي محمد أحمد سليمان
قاضي البيان وأفتخر