محمد نعمان الدين الندوي يكتب: من أعجب أنواع العداوة!
عزيزي القارئ! جنَّبني الله وإياك عداوة الأعداء وكفانا شرهم، ووقانا حسد الحاسدين وصرف عنا ضرهم.، وإن كان حسد الحاسد لا يضر إلا صاحبه.. فما أصدق ما قال الشاعر في الحسد:
لله در الحسد ما أعدله
بدأ بصاحبه فقتله
ثم الأعداء ليسوا كلهم على وتيرة واحدة.. أو من العداوة على درجة واحدة أو نمط واحد..
بل إنما هم مختلفو الهوايات والهويات.. والمقاصد والأغراض.. ويتفاوتون في عداوتهم وبغضائهم – شدة وخفة – حسب تفاوت أمزجتهم وطبائعهم أو أسباب عدائهم..
فمنهم من يعاديك أو يحسدك أو يكرهك لأنك صرت أنبه منه ذِكرًا، وأعظم قدرًا، أو فُقتَه مكانة اجتماعية أو شهرة أو مالًا أو قربًا من أصحاب النفوذ والسلطان.. أو بلغت في المجد الذروة الشماء، أو أحرزت قصَب السبق في حلبة التقدم والمنافسة، أو صرت تعد ممن يشار إليهم بالبنان..
ومنهم من يتجاوز في العداوة كل حد ويتخطى كل سياج، ومنهم من يكون مقتصدا في العداوة غير مفرِط فيها.. ولكن العداوة عداوة.. كالحية.. فإنها حية.. وإن كانت صغيرة تبدو جميلة للناظرين. (لا تلد الحيّةُ إلا الحيّةَ)..
فالعداوة أنواع وألوان ودرجات..
وأتحدث اليوم عن نوع خاص من ذوي العداوة..
إن هذا الصنف من الأعداء لا يعادي أهل المال من الذهب والنشب، وملاك الدور والقصور..
إنهم أعداء ذوي الفضل والنبوغ، {يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله}.
إنهم يعادون العباقرة والنوابغ.. وأصحاب المواهب والملكات الفذة..
وقديما قالوا: «المعاصرة سبب المنافرة».. و: «المعاصرة حجاب».. و: «المعاصرة أعدى أعداء الاعتراف بالنبوغ»..
فما حسدَ ذا الفضلَ إلا معاصروه من أهل زمانه..
والحسد هو الذي يحول بين المعاصرين وبين الاعتراف بالفضل لأهله، بل هو الذي يدفعهم إلى معاداتهم..
على أن ذلك – حسد ذوي الفضل – ليس من شيمة النبلاء.. بل إنما هو ديدن أهل الخسة والنذالة..
ألا.. إن الفضل – الموهوب لأيٍ كان – نعمة من الله، فالاعتراف بالفضل لصاحبه يعني – في الحقيقة – تقديرًا للنعمةِ الإلهية، وحمدًا لله تعالى.. و«لا أحد أحبُّ إليه المدحُ من الله تعالى». (أخرجه البخاري ومسلم).
ثم الذي يحرز الفضل والتقدم، ويصل إلى المعالي والعوالي.. لجهده ومثابرته – أيضا – دور لا يستهان به في نيل هذا الفضل والتقدم والنجاح.
فتلك سنة الله.. «من جدّ وجد» ،« شمٌّر عن ساعد المسعى، وأبشر بحسن الرجعى» ، «من لم تكن له بداية محرقة، لم تكن له نهاية مشرقة».
لا تحسب المجد تمرا أنت آكله
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبِرا
تريدين لقيانَ المعالي رخيصة
ولا بد دون الشهد من إبَر النحل
فهذا الفضل والمجد والعظمة إنما تحصلت لباذلي هممم في تحصيلها، فما أتتهم فجأة أو جزافا، بل سبق ذلك رصيد ضخم من الجد والتعب والسهر والتضحية باللذيذ والراحة.
فبدلًا من أن يحسد الحاسدون أهل الفضل والكمال.. عليهم أن يجتهدوا كما اجتهد محسودوهم.. فيبلغوا من المجد والعظمة إلى ما بلغ إليه أهل الفضل من أبناء عصرهم..
فإنَّ الحسد لا ينفع صاحبه ولا يرفع قدره، ولا ينتقص من مكانة المحظوظ المحسود، بل – بالعكس – يضر الحاسد ويحط من قدره.
فالحاسدون قوم مكروهون في مجتمعاتهم، يُنظر إليهم بنظرة الاحتقار والازدراء، وإنهم ليسوا أعداء للفضل والنبوغ، وعظمةِ العظماء ومجدِ الماجدين فحسب.. بل إنهم لصوص المروءة والنبل والإنسانية أيضا..
بل إنهم متَحَدُّون للمشيئة الإلهية، معترضون على الإرادة الربانية.. وكأنهم يقولون بلسان حالهم: لم أعطي فلان ما أعطي من الفضل من لدن الرب؟
ومن أظلم ممن يعترض على المنح الإلهية الخاصة، التي يهبها الله لمن يشاء من عباده، أو ممن يتصدى للمنعَم عليهم بالمكر والسوء أو الأذى.
ولا حق لأحد أن يحسد أحدا خصه الله بفضل من عنده، فالمالك له الحق كل الحق أن يتصرف في ملكه كيفما يشاء، فيعطي من يشاء، ويحرم من يشاء.. وليس للمملوك أن يبغض أو يعادي محظوظا بالحظ الإلهي، أو مخصوصا بالفضل الرباني..
إنها نفوس أطار صوابها الحقد، فحُرِمت التوفيق والسداد، وعيون أعماها الحسد، فعجزت عن رؤية الحقائق الواضحة كالشمس والقمر، وألسنة حبسها اللؤم، فعيّت عن الاعتراف بالفضل..
وأصحاب هذه الخصال الدنيئة لا يكشفون – بسلوكياتهم المشينة – إلا عن خبث طواياهم وخسة طباعهم، فيسقطون عن الأعين، ويفقدون احترام الناس وحبهم.
إن امثال هؤلاء شؤم وشقاء ونحس وبلاء لأنفسهم هم.. قبل أن يكونوا لغيرهم..
أو كما قال فيلسوف: الحساد مناشير لأنفسهم.
ألا… إن الاعتراف بالفضل لذويه اعتراف بالحق، وتقدير للموهبة الإلهية، وتحديث بالنعمة الربانية، ورحابة صدر، وسعة فكر، وشجاعة ورجولة، ونبل وشرف..
بينما عدم الاعتراف بالفضل غمط الحق، واستكبار واستخفاف بالنعمة الإلهية، وجهل مُغرب (بالعين المعجمة)، ومنطق غير مقبول، ولؤم ودناءة…
وفوق ذلك كله.. الإشادةُ بالفضل لأصحابه، وبيان الصفات المتميزة لمن يتحلون بها سنة نبوية، فهناك حديث مشهور بين فيها الرسول صلى الله عليه وسلم خصائصَ، كان يمتاز بها عدد من الصحابة، ففي الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أرحم أمتي بأمتي أبوبكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح».
فيا ذا الفضل والنبوغ! لا تحفل بالتجاهل، أو الجفاء، أو محاولة الحط من مكانتك من أهل الحسد، وإذا بلغك ما يسوءك منهم، فردد قول العم المتنبي:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأنّي كامل
أو تسلَّ – إذا شئت – بقول الطرماح بن حكيم الطائي (م ٨٠ ھ):
لقد زادني حبًا لنفسي أنني
بغيض إلى كل امرئ غير طائل
وأنّي شقيّ باللئام ولا ترى
شقيًا بهم إلا كريم الشمائل
إذا ما رآني قطّع الطرف بينه
وبيني فِعلَ العارف المتجاهل
ملأتُ عليه الأرض حتى كأنها
من الضيق في عينيه كِفّة حابل
أكل امرئ ألفى أباه مقصرًا
معادٍ لأهل المكرمات الأوائل
وقل لحسادك: لا طاب عيشكم.. وموتوا بغيظكم…
والله معنا.. لا معكم!
(ليلة الخميس: ١٤ من ذي القعدة ١٤٤٥ھ – ٢٢ من مايو ٢٠٢٤م)