“مسافة كافية” لجعفر العقيلي.. حيوية السرد
يقدم الكاتب الأردني جعفر العقيلي في مجموعته القصصية “مسافة كافية”، نصوصًا تتميز بسلاسة السرد وحيويته، وباللغة المؤثثة بالصور الفنية ذات الرموز والدلالات العميقة، مع انفتاحها على التأويل مبرزةً جماليات الحدث ومفارقاته.
وتبدو المفارقة السمة الأبرز التي تجمع هذه النصوص السردية متنوعة المضامين والطروحات، مركزةً على إضاءة هواجس الإنسان ومخاوفه، وإعلاء قيم التحرر والاختلاف عن السائد.
تتضمن المجموعة خمس عشرة قصة، منها ما يقارب موضوعات تتعلق بالواقع الاجتماعي وإيقاع الحياة اليومية، ومنها ما يهتم بالجانب الفلسفي الذي يروم اكتشاف الهموم النفسية ومساءلة الذات في محاولةٍ لنشدان الخلاص.
تتنوع البنية الفنية في قصص المجموعة الصادرة عن “الآن ناشرون وموزعون”؛ فهناك قصص ذات خط سردي متنامٍ زمنيًّا ومكانيًّا، وهناك قصص ذات مقاطع تتنقل في الزمان والمكان وفق الحالة النفسية للشخصية القصصية، ومنها قصة “تعايش” التي تتكون من مقاطع عدة تكشف الحالة النفسيّة للشخصيّة واضطراباتها: “وأخيرًا، أصبح لي بيتٌ؛ أسكنُه ويسكُنني. بيتٌ صغير، أنيق، يحتلّ نصفَ الطابق الثاني لبنايةٍ حديثة في حيٍّ ناشئ على أطراف المدينة. ورغم الجهد الذي أبذله وأنا أقطع المسافةَ الطويلة من أقربِ موقفٍ يَصِلُه الباص مشـيًا إلى بيتي، إلّا أن سعادةً كانت تجتاحني كلّما صعدْتُ الدَّرَجات السِّتّ والعشـرين، وهمَمْتُ بإخراج السّلسلة الطويلة التي يتدلّى منها مفتاحُ الباب الخارجي بكبرياءٍ من بين المفاتيح الأُخرى”.
هذا البيت المستقر كما يظهر في القصة، سرعان ما يضيق بالبطل الذي يقرر أن يزرعه بساعات المنبّه ويعيش مع أصوات رنينها، لكن ما يحدث في النهاية يكون أمرًا صادمًا: “قفزتُ باتّجاه المُنَبّه الأقرب إلى سـريري، وحاولتُ كتمَ أنفاسه، فلمْ أُفلح. وكذا كانت الحالُ مع البقيّة في أرجاء البيت واحدًا واحدًا، فتيقّنْتُ أنها تتحدّاني. حتّى صديقي -جرس الباب- تمرّدَ عَلَيَّ، ورفضَ الاستجابةَ وأنا أتوسّل إليه كي يَصمت. عندها حملتُ ما تيسـر من أغراضـي في حقيبةٍ وهرولتُ إلى الشّارع مُعْلِنًا هزيمتي، وها أنذا أكتبُ قِصّتي في المقهى، وقد قرَّرتُ ألّا أعودَ إلى بيتٍ تَسكنُهُ كلُّ تلك الأصوات.. بيت كانَ لي وحدي!”.
وتجلت في القصص ذات البعد النفسي أجواء الفانتازيا والغرائبية، المغلّفة بسحر الكوميديا السوداء، كما في “كمستير” القائمة على رمز تلك اللعبة المعروفة من الاختباء والظهور، لتصبح تلك اللعبة الخارجية لعبة داخلية بين الإنسان وذاته:
“إنّها رأسـي. بدا الأمرُ غريبًا إلى الحدّ الذي لا يمكنُني فيه أن أستوعبَه. صباح أمسِ رأيتُها في مواجهتي، تُطلُّ علَيَّ من فضاء مرآةِ الحمّامِ الدائرية ذات الإطار البلاستيكي المُزركش. تمعّنْتُ فيها كعادتي، ورفعتُ حاجبَيّ مرّات عِدّة. شذّبتُ ما شذّ من شَعْرهما. سبَّلتُ جفنَيّ؛ دكونَةٌ ما تُلوِّنُهما. إنّه الأرق. ابتسمتُ، فابتسمتُ. أعني ابتسمَ الذي يقابلني. أزَحتُ رأسـي إلى اليمين، ففعلَ البغيضُ مثلي.. وحين عبستُ في وجههِ، لم يتوانَ عن العبوس في وجهي بكثيرٍ من الشّماتة. حينها راودتني رغبتي التي بدأتْ منذ ثلاثين عامًا ونيّف وما زالت عصـيةً على التحقّق؛ أنْ ألعبَ (الكُمُستير) مع قريني؛ أغافله وأمسك به”.
ورغم أن أحداث القصص قد تبدو للوهلة الأولى بسيطة وذات مقدمات عادية، إلا أنها سرعان ما تنعطف إلى نهايات صادمة تكسر أفق توقع القارئ:
“اشتريتُ مرآةً دائريةً صغيرةً من دكان مجاوِرة، ووضعْتُها في جيب سترتي. وحين انزويتُ عن الأنظار قليلًا، أخرجتُها، وبحثتُ عنّي فيها، بحثتُ جيّدًا، فلمْ أجدْني. لم أجدْ رأسـي. مدَدتُ يدي مرّة أخرى أتحسّسُ تضاريسَها، فأدهشني استقرارُها فوقَ عنقي. هرولتُ إلى بيتي أتأرجحُ كَبُندول، ودوارٌ عنيفٌ يبعثرُني على الطُّرقات، ويحيلُني إلى كتلةٍ من فوضـى. عند مدخل الحارة، ألقيتُ التّحيةَ على أبو العبد وسعيد والآخرين، فردُّوا بأحسن منها.. كلُّهم عرَفُوني، إلّا أنا.. يا للحسـرة، لَمْ أعُد أعرفُني!”.
ويُحسب للقصص اللغة الرشيقة التي تشكل جزءًّا أساسيًّا في بنية القصة، بما تمتلكه من قدرة على التوالُد والتشكُّل والتعامل بوعي مع الأبعاد الرمزية والدلالية.
يُذكر أن العقيلي أصدر في القصة القصيرة: “ضيوف ثقال الظل” (2002)، “ربيع في عمّان” (2011)، “تصفية حساب” (2014)، “كمستير” (2015)، وله مجموعة شعرية بعنوان “للنار طقوس وللرماد طقوس أخرى” (1996).