مصطفى عبد السلام يكتب: الذهب يتخلى مؤقتا عن عرشه
تخلى الذهب مؤقتا عن عرشه الذي احتله طوال العامين الماضين بسبب توقف البنوك المركزية الكبرى عن شراء المزيد من المعدن النفيس، فهل تعاود الأسعار الصعود ومتى، أم تشهد السوق فقاعة تلحق خسائر فادحة بحائزي المعدن الأصفر سواء من الأفراد أو المؤسسات، وتشبه تلك الفقاعة التي أصابت أسواق العقارات والبورصات والعملات الرقمية في بعض الأوقات؟
حتى شهر مايو الماضي، كان هناك اندفاع شديد من قبل البنوك المركزية نحو شراء الذهب. كانت عملية الشراء المحمومة من قبل كبار المستثمرين تحركها أسباب عدة قوية، منها زيادة المخاطر الجيوسياسية والاقتصادية حول العالم، ومخاوف من عودة التضخم الجامح للاقتصادات الكبرى، وتعقد أزمة الشرق الأوسط، سواء في فلسطين أو البحر الأحمر، وتنامي مخاطر الجفاف وتقلّبات المناخ العنيفة والقلق من حدوث أزمة غذاء، ورغبة بعض الدول في تقليل الاعتماد على الدولار ضمن احتياطاتها من النقد الأجنبي خوفا من المصادرة كما حدث مع روسيا. إضافة لسبب أخر يتعلق بالدول النامية وهو تدافع المدخرين نحو الشراء حماية لأموالهم من التآكل بسبب موجات التضخم وتهاوي العملة المحلية مقابل الدولار.
هذه العوامل وغيرها أدّت إلى حدوث مستويات قياسية وتاريخية وجنونية في سعر الذهب لم يصل إليها من قبل، إذ بلغ سعر الأونصة 2431 دولاراً في 12 إبريل الماضي.
غذّى قفزة الأسعار تلك الإقبال الشديد على شراء المعدن الثمين من قبل البنوك المركزية الكبرى طوال ما يقرب من عامين، وذلك تحت قيادة البنك المركزي الصيني الذي اشترى لوحده عشرات الأطنان من الذهب منذ اندلاع حرب أوكرانيا في فبراير 2022.
ومعها زادت كميات ما تحوزه الصين من المعدن النفيس إلى نحو 2264 طناً في نهاية شهر إبريل الماضي قيمتها 167.96 مليار دولار. كما بلغت حيازات البنوك المركزية من الذهب 37 ألف طن بنهاية العام الماضي 2023، وهو ما يمثل 16.7% من إجمالي احتياطيات البنوك المركزية من النقد الأجنبي.
وخلال العام الجاري، اندفع كبار المستثمرين حول العالم نحو شراء الذهب، باعتباره الملاذ الآمن، ووسيلة للتحوط ضد المخاطر الاقتصادية والمالية، ومنها التضخم وتفاقم الدين العام، كما أن الاستحواذ عليه يأتي في إطار تنويع المخاطر، وهي السياسة التي يحرص عليها أصحاب الأموال والمدخرون، خاصة مع تأجيل قرارات خفض سعر الفائدة على الدولار، واستمرار سياسة التشدد النقدي، والارتباك الشديد الذي أصاب سوق العملات الرقمية، واندلاع حرب تجارية بين الصين والاتحاد الأوروبي.
لكن بداية من شهر مايو الماضي بدأت البنوك المركزية تلتقط الأنفاس وتتوقف عن الشراء، وبدأ الذهب يتخلى مؤقتاً عن عرشه الذي تربع عليه بين أدوات الاستثمار شبه الآمنة، ويفقد زخمه وبريقه، فالبنك المركزي الصيني لم يشترِ أي سبائك ذهب خلال الشهرين الماضيين، واختار أكبر مشترٍ للذهب في العالم عدم إضافة المزيد إلى احتياطيات الذهب لديه، لينهي بذلك موجة شراء استمرت 18 شهراً.
وسارت على نهجه بنوك مركزية واستثمارية وصناديق أخرى، إذ وفق رؤية هؤلاء فإن أسعار الذهب وصلت إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق، وأن الأسعار المرتفعة تردع عمليات الشراء، وبالتالي يجب أخذ هدنة وفترة التقاط أنفاس تفاديا لأي خسائر مرتقبة أو كلفة إضافية.
لكن هل ستتوقف عملية شراء الذهب من قبل البنوك المركزية خلال الفترة المقبلة، وبالتالي تفقد سوق المعدن النفيس زخمها الذي احتفظت به طوال عامين، تبدأ بعدها الدخول في حالة ركود قد تنتهي بفقاعة كبيرة؟
في رأي بعض المحللين والمؤسسات المالية فإنّ البنوك المركزية الكبرى في العالم ستستأنف عمليات الشراء في الشهور المقبلة، وفي المقدمة بنوك الصين وروسيا وتركيا وبولندا، لكن السؤال هنا: هل الشراء سيكون بنفس الزخم الذي كان قبل إبريل الماضي؟
هذا يتوقف على درجة المخاطر المقبلة، وقوة الدولار، وموعد إطلاق البنوك المركزية صافرة خفض أسعار الفائدة، ودرجة التوتر في غزة وأوكرانيا، ونتائج الانتخابات الأميركية المقبلة، واحتمال عودة ترامب إلى البيت الأبيض من عدمه، وتطور الخلافات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، والوضع في تايوان وغيرها.