في قلب العاصمة الإيرانية طهران، يقع مبنى لا يبدو للوهلة الأولى أنه شاهد على أحد أعقد التحولات في الشرق الأوسط، لكنه في الحقيقة يلخص فصولًا كاملة من العلاقة المتقلبة بين إيران وإسرائيل؛ من التحالف إلى العداء. هذا المبنى، الذي كان يومًا ما مقرًا للسفارة الإسرائيلية خلال حكم الشاه محمد رضا بهلوي، أصبح بعد الثورة الإسلامية عام 1979 مقرًا للسفارة الفلسطينية، في تحول رمزي بالغ الدلالة.
من المعارضة إلى الاعتراف: سنوات التحالف الهادئ
رغم أن إيران صوتت في عام 1947 ضد قرار تقسيم فلسطين، وأعلنت دعمها للعرب في حرب 1948 دون مشاركة عسكرية، فإن السياسة الإيرانية بدأت تميل تدريجيًا إلى الغرب بعد اعتلاء الشاه محمد رضا بهلوي العرش. وفي خطوة تعكس هذا التغير، اعترفت طهران بإسرائيل رسميًا عام 1950، لتكون الدولة الإسلامية الثانية بعد تركيا التي تتخذ هذه الخطوة، رغم تحفظها على الإعلان الرسمي بسبب ضغط رجال الدين.
ظل الاعتراف بإسرائيل “سرًا معلنًا”، إذ أُرسل أول دبلوماسي إيراني إلى تل أبيب بصفته “مبعوثًا خاصًا” وليس سفيرًا. ومع أن حكومة رئيس الوزراء محمد مصدق قطعت العلاقات القنصلية مع إسرائيل، فإن الانقلاب عليه في 1953 أعاد العلاقة إلى مسارها الطبيعي، لا بل شهدت تعاونًا في مجالات النفط، الزراعة، والمجال العسكري.
شراكة ضد عبد الناصر.. وتحالف في الظل
شكّلت العلاقة الإيرانية الإسرائيلية تحالفًا غير مباشر ضد المد القومي بقيادة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي اعتبرته تل أبيب وطهران عدوًا مشتركًا. وامتد التعاون ليشمل الدعم اللوجستي، العسكري، وحتى تبادل الزيارات الثقافية. وفي ذروة هذا التحالف، كانت إيران تزود إسرائيل بالنفط، بينما كانت تل أبيب تساعد في تطوير البرنامج الصاروخي الإيراني، رغم أن العلاقات الرسمية بقيت محاطة بالسرية.
الثورة تغيّر كل شيء: من التحالف إلى القطيعة
عام 1979، تغيّرت قواعد اللعبة كليًا. فمع عودة آية الله روح الله الخميني إلى إيران بعد الإطاحة بالشاه، تحولت طهران من حليف سري لتل أبيب إلى عدو أيديولوجي معلن. أول زيارة أجنبية بعد الثورة كانت لياسر عرفات، الذي استُقبل استقبال الأبطال، في وقت أُسند فيه مقر السفارة الإسرائيلية ليصبح سفارة فلسطينية.
أعلن الخميني “الجمعة الأخيرة من رمضان” يومًا عالميًا للقدس، ودعا إلى التظاهر تضامنًا مع الفلسطينيين. لكن المفارقة أن إيران، رغم هذا الموقف الثوري، كانت في حاجة ماسّة إلى قطع غيار لطائراتها الأمريكية الصنع خلال حربها مع العراق، فبدأت شحنات الأسلحة تصل سرًا من إسرائيل، ضمن ما عُرف لاحقًا بـ”فضيحة إيران-كونترا”.
من المواجهة بالوكالة إلى الاشتباك المباشر
مع انتهاء الحرب الإيرانية العراقية وبدء مفاوضات أوسلو، ظهرت مرحلة جديدة في العلاقة. أدانت إيران الاتفاق، وبدأت بدعم فصائل فلسطينية معارضة له كحماس والجهاد الإسلامي، إضافة إلى حزب الله في لبنان، الذي أصبح ذراعًا عسكرية فعالة لطهران في المنطقة. وقد وجدت تل أبيب في هذا التحالف تهديدًا مباشرًا، أدى لاحقًا إلى سلسلة من المواجهات في لبنان وفلسطين، من أبرزها حرب 2006 بين حزب الله وإسرائيل، والحروب المتكررة في غزة.
النووي يشعل الصراع من جديد
مع تنامي الطموحات النووية الإيرانية، بدأت إسرائيل في شن هجمات سيبرانية وعمليات اغتيال ضد علماء إيرانيين، بينما اتهمت طهران تل أبيب مرارًا بالضلوع في تلك العمليات. في المقابل، دعمت إسرائيل علنًا انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الموقع عام 2015، ورحبت بأي خطوة تهدف إلى عرقلة البرنامج الإيراني.
في السنوات الأخيرة، تحولت المواجهات غير المباشرة إلى ضربات عسكرية في سوريا ضد مواقع تابعة للحرس الثوري وحزب الله. ووصلت التوترات إلى ذروتها خلال الحرب الإسرائيلية على غزة أواخر 2023، والتي تخللتها اتهامات متبادلة، وبلغت ذروتها في ربيع 2024 عندما استهدفت إسرائيل قنصلية إيرانية في دمشق، ما أسفر عن مقتل قيادات بالحرس الثوري.
وردت طهران بهجوم غير مسبوق شمل مئات الصواريخ والمسيرات على إسرائيل، وهو ما اعتُبر أكبر تصعيد علني ومباشر بين الدولتين. تلا ذلك رد إسرائيلي نوعي استهدف مواقع داخل إيران، وقُتل فيه عدد من العلماء النوويين والقادة العسكريين.
من هنا إلى أين؟
العلاقة بين إيران وإسرائيل كانت دائمًا رهينة التحولات الإقليمية والدولية: من تحالف استراتيجي سري، إلى صراع أيديولوجي علني، ثم إلى مواجهة عسكرية مباشرة.فإلى أين الخطوة القادمة ؟
