بحوث ودراسات

د. نصر فحجان يكتب: قبل أنْ تنفَدَ كلماتُ ربي

«قبل أنْ تنفَدَ كلماتُ ربي» ما المُراد ب «كلمات الله»؟

يقول الله تعالى: (قل لو كان البحر مِدادًا لكلمات ربي لنَفِد البحر قبل أن تنفَد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددًا) الكهف 109

وفي ذات السياق يقول الله تعالى: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم) لقمان 27

ما المُراد بقوله تعالى: (كلمات الله)؟

هل الكلمات هي الكلام؟

ورد في القرآن الكريم مفردة (كلمات) ومفردة (كلام)، ومعلوم أنه لا ترادف في القرآن الكريم، ولا يمكن أنْ تقوم مفردةٌ مقام مفردة أخرى، فتؤدي نفس المعنى، وتحمل نفس الدلالة، ففي القرآن الكريم كل مفردة لها مدلول خاص بها، وكل حرف له معناه الخاص، وهذا يعني أنه لا يمكن أنْ تكون مفردة: (كلمات) لها نفس المدلول الذي تدل عليه مفردة: (كلام).

أولاً: (كلام):

جاءت مفردة: (كلام) في القرآن الكريم في سياقات مختلفة كما يلي:

1- للدلالة على القرآن الكريم وآياته، كما في قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) التوبة 6، فكلام الله في الآية هو القرآن الكريم.

2- للدلالة على كتاب الله (التوراة)، كما في قوله تعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) البقرة 75.

3- للدلالة على كلام الله تعالى المُوَجَّه لكليم الله موسى عليه السلام، كما في قوله تعالى: (قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آيتك وكن من الشكرين) الأعراف 144

4- للدلالة على كلام الناس فيما بينهم، كما في قوله تعالى: (قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويًا) مريم 10، وقوله تعالى: (إني نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم إنسيًا) مريم 26.

والملاحظ في السياقات السابقة أنّ كلام الله تعالى يمكن كتابته دون الحاجة إلى بحار من المِداد والحِبر، ولا إلى تحويل أشجار الأرض إلى أقلام نكتب بها، فالقرآن الكريم مكتوب لدينا بقراءاته العشر، وعندنا ملايين النُّسخ من المصاحف في كل بلاد المسلمين، فضلًا عن كتابته وتخزينه إلكترونيًا على الحواسيب، والأجهزة الذكية.

لكننا عند الحديث عن مفردة: (كلمات)، فإننا نقرأ قول الله تعالى: (قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددًا)، وهذا يعني أنّ (كلمات الله) لا يمكن لأحد من البشر أنْ يكتبها بكل أقلام الدنيا، ولو كانت كل بحار الأرض مِدادًا له، فما المُراد بكلمات الله؟

ثانيًا: (كلمات):

كلمات: جمع مؤنث سالم، ومفردها: كلمة.

وقد جاءت: (كلمة) و(كلمات) في سياقات مختلفة على النحو التالي:

1- جاءت بمعنى القدَر المُسْبَق، كما في قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب) هود 110، وقوله تعالى: (ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزامًا وأجل مسمى) طه 129، والمعنى: فلولا أنّ قَدَر الله المُسبق بتأخير القضاء بينهم إلى يوم القيامة لعاقبهم بذنوبهم، ولكنّ الله تعالى يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار: (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار) إبراهيم 42.

2- جاءت بمعنى المشيئة والإرادة والقوة والأمر، كما في قوله تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلًا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) الأنعام 115.

وكما في قوله تعالى: (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا) الأعراف 137

وكما في قوله تعالى: (إن الذين حقت عليهم كلمات الله لا يؤمنون) يونس 96

وكما في قوله تعالى: (وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) يوسف 119.

وكما في قوله تعالى: (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم). التوبة 40

وكما في قوله تعالى: (إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) النساء 171

3- جاءت بمعنى التكليفات والأعمال، كما في قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) البقرة 37، فآدم عليه السلام بعد أنْ عصى ربه وأكل من الشجرة التي نهاه عن الاقتراب منها، ندم على معصيته، وعَلِم الله تعالى صدقه وندمه، فاجتباه ليتوب: (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) طه 122، وكانت توبته عليه السلام بعد أنْ تلقَّى من ربه (كلمات)، والتي هي أعمال وتكليفات عليه أنْ يقوم بها ليقبل الله توبته، وأغلب الظنّ أنّ هذه الأعمال كانت: الدعاء وطلب العفو والمغفرة من الله تعالى، وبناء البيت الحرام مع ما فيه من الجهد في حمل الحجارة والحَفْر، ثم الطواف به والصلاة فيه، والنحر من الأنعام تقربًا لله تعالى، يقول الله تعالى: (إنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدى للعالمين) آل عمران 96.

وكما في قوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إمامًا قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) البقرة 124، وفي الآية إشارة إلى ابتلاء الله تعالى لإبراهيم عليه السلام، وتكليفه بأعمال عليه أنْ يقوم بها على أتم وجه، وأغلب الظنّ أنّ هذه التكليفات والابتلاءات تمثلت في:

أ‌- أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام بأنْ يأخذ زوجه هاجر وابنه الرضيع إسماعيل إلى مكة، ويتركهما لوحدهما: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) إبراهيم 37

ب‌- أراه الله تعالى في منامه أنه يذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام، ورؤيا الأنبياء حق ووحي، وقد استجاب لأمر ربه وأطاع: (فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا * إنا كذلك نجزي المحسنين * إن هذا لهو البلاء المبين * وفديناه بذبح عظيم) الصافات 107

ج‌- أمره الله تعالى بأنْ يرفع القواعد من البيت هو وابنه إسماعيل عليهما السلام، (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) البقرة 127.

د- أمره الله تعالى بالأذان في الناس بالحج: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) الحج 27.

هـ ‌- تطهير بيت الله تعالى للطائفين والقائمين والركع السجود: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئًا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود) الحج 26.

و- أداء مناسك الحج: (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم) البقرة 128.

وقد قام إبراهيم عليه السلام بكل هذه (الكلمات) على أتم وجه: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن).

ومن خلال هذه السياقات في كتاب الله تعالى، فإنه يتبين لنا أنّ (الكلام) غير (الكلمات)، فكلام الله تعالى يُكتب بلا مشقة، ولكنّ كلمات الله لا يكفي لكتابتها كل أقلام الأرض، ولو كانت كل البحار مِدادًا فستنفد وتنتهي قبل أنْ تنفد كلمات الله.

ويمكننا القول:

إنّ كلمات الله أكبر مما تتخيله عقولنا، فهي كل مشيئات الله تعالى، وكل إراداته، وكل قضائه وقَدَره، وكل أمره، وكل خَلقِه، وكل عِلمه، وكل قدرته، وكل قوته، وكل مساحات وأسرار معاني أسمائه الحسنى، ما نعلمه منها وما لا نعلمه.

إننا لو أردنا أنْ نكتب عن كلمات الله تعالى المستنبطة من اسم واحد من أسماء الله الحسنى، فلنْ تكفينا كل بحار الأرض مِدادًا، ولنأخذ مثلاً اسم الله (العليم)، فماذا عسانا أنْ نكتب عن مساحة عِلم الله اللا متناهية: (وسع ربي كل شيء علمًا أفلا تتذكرون) الأنعام 80؟

وماذا يمكننا أنْ نكتب عن كلمات الله المستنبطة من اسم الله (القوي)؟ وهل يمكننا أنْ ندرك أو نعرف حدود وحجم هذه الكلمات؟ فأيّ بحارٍ هذه التي يمكن أنْ تُحصي قوة خالقها: (إن ربك هو القوي العزيز)؟

وقد عَلِم النبي صلى الله عليه وسلم المُراد بكلمات الله تعالى، فكان يدعو الله بها، ويعلمنا أنْ ندعو بها، وفي الحديث الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء: (أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأنْ يحضرونِ) صحيح مسلم 4/ 1772.

وصحّ عن عبد الله بن خنبش رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل فقال: يا محمد، قلْ، قلت: وما أقول؟ قال: قل: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن برٌّ ولا فاجر، من شرّ ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شرّ ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شرّ ما ذرأ في الأرض وبرَأ، ومن شرّ ما يعرج منها، ومن شرّ فتن الليل والنهار، ومن شرّ كل طارقٍ يطرُق، إلا طارقًا يطرُق بخير يا رحمن) صحيح الجامع / الألباني 74.

إننا عندما نعوذ بكلمات الله مما نجد ونحاذر، فإنما نعوذ بقدرة الله تعالى وقوته وقدوسيته وعظمته وعلمه وقيوميته وجلاله، وبكل أسرار أسمائه الحسنى التي لن نحصيها، ولن نستطيع أنْ نكتبها بكل أقلام الأرض، حتى وإنْ كانت البحار لنا مدادًا وحِبرًا.

د. نصر فحجان

عميد‏ ‏كلية دار الدعوة والعلوم الإنسانية‏.. ومحاضر دراسات إسلامية - غزة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى