د. أحمد زايد يكتب: إعجاز التشريعات الإسلامية في بناء المجتمع المثالي (7-10)
تشريع الطلاق في النظام الاجتماعي
شرع الله تعالى عقد الزوجية وأحله إصلاحا للأفراد وبناء للمجتمعات على أسس شرعية متينة، وراعى ما يعتور تلك الحياة الزوجية من متغيرات قد يتصدع بسببها هذا البناء ولا يصلح للبقاء والدوام، حتى يصل إلى تفضيل أحد الزوجين أو كلاهما الفرقة والطلاق على الدوام والاستمرار.
واقعية الإسلام في النظر إلى الحياة الزوجية:
معلوم أن من خصائص الشريعة الإسلامية “الواقعية” ومن تجليات الواقعية في الإطار الاجتماعي مراعاة أن بعض حالات الزواج قد لا تكلل بالنجاح؛ لأسباب تختلف من حالة إلى حالة، بعضها راجع إلى الأفكار والتصورات، وبعضها راجع إلى اختلاف في الطباع أو العادات والتقاليد، وقد ترجع إلى أمور مادية أو تصرفات إجرائية، هذا هو الواقع الذي لا يمكن تجاهله، وعندما تتوفر حالات يشق معها الحياة الزوجية أو تستحيل يكون المرء بين أمرين:
إما أن يقبل كلا الطرفين أو أحدهما الطرف الآخر وهو كاره له، وحينئذ سيظل في ضغط نفسي يدفعه إلى إهماله أو ظلمه، وهذا يفقده معنى الحياة، ويجعله في صراع نفسي دائم يفقد معه معنى السعادة والاستقرار، وهذا لا شك يؤثر سلبا في كافة الأطراف الاجتماعية وقد قال المتنبي:
ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى ** عدوا له ما من صـــــــــــــــداقته بد
وإما أن يبحث الزوج أو الزوجان عن مخرج مناسب يحفظ عليهما وعلى الأولاد كرامتهم واستقرارهم، بأقل خسائر ممكنة، ولا يكون ذلك إلا بالفراق الشرعي “الطلاق”.
ولا شك أن الثاني هو الحل المناسب الذي شرعه الإسلام وأباحه، وجعله مخرجا مناسبا: {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته}.
قال الشاشي في محاسن الشريعة (310): “وشرع للأزواج إباحة الطلاق، وذلك لا يقع إلا لسبب يحدث من المرأة أو من الزوج يدعو إليه، ووجه ما ذكرنا والله أعلم: من أن النكاح وإن كان المقصود فيه الاستدامة، فليس يؤمن حدوث ما يقتضي قطعها، أو يري الزوج بأن الصلاح فيه، فلا يكون لإجباره على إمساكها في هذه الحال معنى؛ لأن فيه إبطالا لما ينبني عليه النكاح من التأليف، ولعلهما إذا افترقا صلحت قلوبهما وتاقت منها أنفسهما إلى الاجتماع.
وقد يكون الملال هو المحدث بفساد الحال بينهما، فإذا تفرقا انطلقت موارد الملال، ونظرت بينهما الأحوال فمن تأمل هذا علم أنه يقرب إلى الطلاق من إكراههما على المقام على التباغض والتنافر”.
الطلاق لا ينفك عن الأخلاق:
لأن شريعة الطلاق أخلاقية في إجراءاتها، أخلاقية في مقصدها ومآلها؛ ففي الإسلام لا تتصور الأخلاق قيما مجردة تقع في فضاءات غير عملية، لكنها قيم تتمثل في فضاء عملي تبرهن من خلاله على صدق إيمان صاحبها، وبخاصة وقت الشدائد والمحن والحالات غير الطبيعية.
ولأن الطلاق يقع غالبا عن بغض وكراهية وغضب كان لابد أن يحوطه سياج أخلاقي يتمثل في:
1- رعاية التمهل والصبر وعدم العجلة من الزوج، قال تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} وهنا نجد أن الطلاق لا يقع بكلمة واحدة كما وقع الزواج، فإن كان الزواج قد وقع بكلمة “زوجتك” من طرف، و”قبلت” من الطرف الآخر، فليس كذلك الطلاق، إذ الشرع فيه أن يقع على ثلاث مرات متفرقات دون تعجل، بحيث توجد فرصة للزوجين بعد كل مرحلة لإعادة التفكير، ومراجعة المشاعر والاحتياجات، وكذلك اشترط في الطلاق التمهل فلا يوقعه الزوج إلا في حالة معينة تكون عليها المرأة حيث لا حيض ولا طهر جومعت فيه ولا يكون ثلاثا، وحيثما وقع مخالفا لذلك كان بدعيا، يأثم فيه الزوج، وبعض الفقهاء لا يوقعه أصلا.
2- رعاية الفضل والعشرة السابقة، ففي سياق الطلاق يؤكد الله تعالى على أخلاقية التصرف بأن يتذكر الزوجان الفضل بينهم، قال تعالى: {ولا تنسوا الفضل بينكم} وهذا الفضل يحمل على معاني منها: “التعاطف” وهو قول الربيع، و”الصلة” وهو قول السدي، و”المعروف” وهو قول كثيرين، كما يحمل على “إتمام الزوج الصداق، أو ترك المرأة الشطر” كما عند مجاهد وغيره. وكل هذه أخلاقيات إجرائية في حالات يملؤها الغضب والنفور إلا أنها لا تنسي المسلم واجب رعاية الأخلاق.
3- الإحسان: كما قال تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان}. وقوله: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف}.
وأما من ناحية المقصد فهو حماية عامة لأخلاقيات المجتمع ككل بحيث لا يجبر المرء على البقاء مع زوجة يكرهها أو لا تناسبه، ولا تجبر المرأة على البقاء مع من لا تحبه، ولو أجبر أحد الطرفين على شيء من ذلك ألجأه ذلك إلى الوقوع في الزنا، فيفسد المجتمع ككل، وقد رأينا ذلك في المجتمعات التي تحرم الطلاق ولا تبيحه إلا لعلة الزنا كالمسيحية، في وقت تحرم فيه التعدد أيضا، والأدهى من ذلك أنه تحرم الزواج من المطلقة بعد طلاقها. ولا يخفى ما ينتجه ذلك من بحث عن متنفس لإرواء الشهوات في أبواب أخرى غير مشروعة، ولن يكون إلا الزنا، وكأنها بمخالفتها للفطرة في تشريعاتها، ومجافاتها الواقع في أحكامها، تدفع الرجال والنساء إلى فعل الفاحشة.
نظرة المجتمعات الحالية للطلاق والمطلقين في الحاجة إلى إعادة تصحيح:
ومن خطايا المجتمعات المسلمة في وقتنا الحاضر تلك النظرة الخاطئة للطلاق والمطلقين والتي يأباها الإسلام، حيث يعتبرون الطلاق شرا محضا، ويعترون أطرافه جماعة من الشريرين الفاشلين!!
ونحن نقول: إن الطلاق وإن كان هدما لبنيان قائم، لكنه في الحقيقة ليس هدما لبنيان صحيح صالح، وإنما هو هدم لبنيان قد تصدعت أركانه، وإن تنكيسه قبل أن يخر على رؤوس ساكنيه هو عين العقل والمصلحة، والطلاق متى كان لموجب قوي، وروعي فيه المنهج الأخلاقي في إجراءاته، كان كعملية جراحية تؤلم وقتا ما لكنها تفضي إلى صحة دائمة.
والطلاق شريعة ربانية ربما يفتح الله على كلا الطرفين اللذين تهاجرا وافترقا بحياة أسعد وأجمل وأكثر استقرارا من حياتهما الأولى النكدة، وقد شاهدنا أن الرجل المطلق قد يرزق بزوجة أخرى يرضاها ويسعد بها، وقد ترزق المرأة المطلقة برجل آخر ترضاه ويسعدها، وتلك حكمة الله وواقعية الحياة.
ومن خطايا الناس في النظر إلى المطلقين:
تلك النظرة التي تكون بعين الارتياب إلى المطلقين حيث يرفض المجتمع -في صمت- الزواج من المطلقات، ويتردد كثيرا في قبول الرجال المطلقين كأزواج، ولم يكن الأمر كذلك في عهد سلفنا الصالح، فقد كانت المرأة كثيرا مما تتزوج بمجرد انتهاء عدتها، وربما طلقت أكثر من مرة وتزوجت أكثر من مرة.
فعلى أهل العلم ورجال الإعلام تصحيح هذه المفاهيم لتقويم سلوكيات الناس، فليست المرأة المطلقة شريرة فاشلة لا تصلح لحياة زوجية بمجرد أن خاضت تجربة لم يكتب لها التوفيق فيها، وليس الرجل المطلق رجلا فاشلا لا يصلح لإقامة بيت صالح غير الذي لم ينجح فيه من قبل.
والخلاصة أن الطلاق رحمة فلا نحوله بجهلنا إلى عذاب.