“قِـطُّ غَـزّة”.. قصة: خالد الطبلاوي
تلفّت حوله مذعوراً، لم يعد يفهم شيئاً مما يدور في دنيا البشر، طلقات المدافع، وانفجار القنابل هي المصدر الوحيد للضوء في ليل غزة، أوثقته حيرته:
(ليس غير هذا الجحر أضع فيه أبنائي، فأين أجد لهم الأمان؟! لم تبق طائرات الصهاينة شبراً إلا وقد دكته حتى رحلت أمهم مقطوعة الرأس تحت جدران أحد البيوت المهدمة)
الآن يتجرع بقية كأس العلقم الفلسطيني، أصبح على عاتقه وحده الحماية وتوفير الطعام.
الطعام ؟!!! كلمة تكاد تنقرض من قاموس غزة، ولكن لا بأس من المحاولة، هذا أرحم من رؤيتهم وهم يموتون ببطء، تعتاد عيناه الظلام، يرى شبحاً يتحرك
(ما هذا ؟! وَيحي …أ هذا الحاج محمود الذي كنت آكل عنده ما لذ وطاب؟ أيصل الحال به إلى البحث في مكان يبحث فيه أمثالنا عن الطعام؟! سبحان الله إن النور والوقار لم يغادرا وجهه بعد!!
ماذا تبقّى لأمثالي إذن؟!
فليكن شأني شأن المجاهدين سأقصد معسكرات الصهاينة أغتنم منها ، ألست من ديار الجهاد؟)
يقترب من معبر (أبو سالم) لا شك أن الصهاينة لن يزعجهم عبور قط يبحث عن بقايا طعام، يقفز على أحد المكاتب فتقع مهمات أحد الجنود فيزمجر الرصاص من كل اتجاه فيخرج مذعوراً تاركاً الجنود يبحثون عن المتفجرات التي غرسها مرددين: قسامي …قسامي .
يختبئ خلف إحدى شجيرات الزيتون الممدة على أرض غزة رافعةً يديها إلى السماء تشكو ظلم التجريف:
(لا مفرّ إذن من الذهاب إلى الشاطئ، لكم حدثني جدي عن كرم الصيادين في شاطئ غزة وتقربهم إلى الله بإطعام كل ذي كبد رطب)
يفر بسرعة بعد هدوء أصوات الرصاص، يسمع أصوات استغاثة من طاقم إحدى سيارات الإسعاف، لقد نفد الوقود بينما المصاب ينزف بغزارة، ترتفع أصوات الحوقلة والاسترجاع بعد موت الحالة الثالثة خلال ساعة.
في طريقه إلى الشاطئ يرى جنازة جماعية لأطفال الحضانات الذين استشهدوا بانقطاع الكهرباء عنهم فيبكي بكاءً مراً وقد تربعت أمامه صور أبنائه الجوعى.
يصل إلى الشط منهكاً، يهوله منظر المراكب المحطمة، وجلوس الصيادين على أحجار اليأس مسلّمين رؤوسهم بين أكفهم وكأنها علامات استفهام بين أقواس تبحث عن مجيب.
(أي طعامٍ تتحدث عنه يا جدي؟! لا بُدّ أنه حلم من أحلامك، أو قصة من التي كنت ترويها حين أعلو ظهرك مصرّاً على سماع قصة)
أحسّ بأصابع اللغم تلتف حول رقبته حين سمع صياداً عجوزاً يخبر مندوب (الأنروا) أن عدد الصيادين الشهداء الذين يخرجونهم من البحر يزيد عن عدد السمك الناتج من الصيد، فيقّلب المندوب كفيه ثم يهاتف رئيسه: لقد حان وقت الرحيل عن غزة.
لا مفرّ إذن من العبور إلى أحضان العرب، بدون تفكير يقفز إلى مؤخرة عربة يجرها حمار، إن صاحبها متوجّه إلى معبر رفح، أحسّ بقرب حل المشكلة لا بُدّ أن القطط في القطر الشقيق سيشعرون به هذا إلى جانب البشر.
ترتفع أكفّ المفاجآت لتصفعه، إن المعبر مغلق، وعليه آلاف الجنود المدججين بالسلاح، أحسَّ بالأمان في بداية الأمر وأن ساعة التحرير قد اقتربت، ثم ما لبثت آماله أن تبخّرت حين رأى سبعة حالات حرجة تموت أمام عينيه قبل أن يُسمح لها بالدخول للعلاج.
(لا سبيل لقط مثلي إلا القفز فوق سور الأسلاك للعبور)
ترتفع الأصوات مع طلقات الرصاص المنبعثة نحو القط: إن حماس تستخدم القطط في أغراضها الخبيثة
يلتقط أنفاسه بعد عدة كيلومترات ويأسره العجب حين يرى حجم التجهيزات الموقوفة لبناء سور الحدود مع غزة ولا يستنقذه من العجب إلا حيرته عندما رأى سهماً على لوحة تشير إلى اتجاه خط الغاز إلى فلسطين المحتلة، ولم يجد جواباً على سؤاله: لماذا إذن تعيش غزة في الظلام؟!!
أخيراً واتته الفرصة، عربة سياحية تنطلق إلى إحدى القرى السياحية، يدخل خلسة ، يختبئ تحت أحد المقاعد، تتحرك السيارة، يصارع آلام الجوع التي ما تلبث أن تنتصر عليه فيموء بشدة، يعلو صراخ السياح والسائق والمشرف: إنه قط حماس التي تحدثت عنه الصحف ووكالات الأنباء
تهدأ الأصوات بعد تدخل سائح عجوز: الهدوء من فضلكم حتى لا يثور في العربة ويحدث بكم إصابات … إنني أعرف عناد المنتمين إلى حماس وأعرف كيف أتعامل معهم.
يهدأ الجميع ليخرج القط متتبعاً رائحة الطعام الشهي الذي وضعه العجوز له في الصالة بعد مزجه بمخدر، راح يأكل بنهم والجميع يراقبه، شعر بيد العجوز تربت على ظهره ثم تحمله بعد أن شعر بالخدر ليستقر على حجره، نام بعض الوقت، بدأ الانتباه يعود إليه، راح يتأمل الرؤوس المحلاة بطاقية يعرفها جيداً، (هل أخطأت وتوجهت داخل الكيان البغيض؟!)،
يلمح بعض الجالسين يتصفح الجرائد العربية مبتسماً للعناوين: حماس تخطط لاقتحام معبر رفح – شيخ أحد المساجد بغزة يبيح دم الجنود المصريين – حماس تخطط لنسف الجدار العازل، صورة للعلم الصهيوني يرفرف فوق بعض العواصم العربية وأخرى لمسئول فلسطيني يقبل رايس، دعوة من أحد الزعماء أن يكون للصهاينة مقعد في الجامعة العربية، صرخ من داخله (هل هي جرائد عربية حقاً؟!!!)
زاد صراخه وهياجه حينما أسلمه العجوز لأمن القرية السياحية، ورأى مدى سيادة هؤلاء السياح على الأرض، فر هارباً عندما علم أن مصيره الإعدام ، راحت دوريات الأمن بالقرية تطارده حتى الحدود، تعالت أصوات الرصاص من خلفه، وقع في كماشة، فقد كانت الطائرات الصهيونية تقصف حدود رفح الفلسطينية بشدة خوفاً من عمليات تهريب محتملة، تنازعته أيدي الموت، نظر إلى أرض غزة بشوق، قفز عالياً لتلحق رأسه برأس زوجته على تراب غزة.
—————–
قصة: خالد الطبلاوي