د. أسامة الأشقر يكتب: ابتلاء الصّلابة!
1- اتصل بي بعض الأفاضل من أهل الثغر سائلاً عن ريبةٍ في قلبه يظنّها، ويخشى أن تكون اعتراضاً على قضاء الله، وتسخّطاً، إذ إن الأمر قد بلغ عندهم مبلغاً عظيماً من القهر واليأس والحزن والضياع بسبب هذه الاستباحة الهائلة من أوغاد العصر ومجرميه.
2- فأخبرتُه أنّ سؤالك هذا من علائم إيمانك وتقواك، وأن هذا الشعور القهريّ ينتاب كل أحد في مثل هذه الكوارث الجائحة التي تزلزل أركان المرء، وتمسّ أعالي حصونه.
3- وأخبرتُه أنّ القدَر غير المقدور، والقضاءَ غير المقضيّ، وثمّة فرق كبير بين السخط بالقضاء وعدم الرضا به، والسخط بالمَقْضِي وعدم الرضا به كما يقول الإمام القرافي في الفروق، فالقضاء متعلق بفعل الله تعالى، والمقضيّ متعلق بفعل العبد وكسبه، وذلك مثل أن يصف لك طبيبٌ دواءً لعلّتك، فإنك إن اعترضتَ على الدواء لمراره أو قسوة علاجه أو غلاء ثمنه فهذا اعتراض على المقضيّ، وأما أن ترمي الطبيب الذي أعطاك الدواء بأنه جاهل أو غير متمرّس لأنه أعطاك دواء غير مستساغ فهذا اعتراض على القضاء وإساءة إليه، ولله المثل الأعلى.
4- فالسخط بقضاء الله والاعتراض عليه حرام، والقبول بأقداره والتسليم لها واجب؛ فلا ينبغي لك مثلاً أن تقول: وما ذنبي يا الله في هذا البلاء، وما ذنب هؤلاء الصغار والضحايا البريئة، وما نستحقّ هذا الذي يصيبنا ولا نستأهله… فهذا كله اعتراض على أمر الله وقضائه، وإقلالٌ من إجلاله وتعظيمه وكمال ربوبيته، لأنه هو صاحب الأمر والخلق يتصرّف بنا كيفما يشاء، وهو صاحب العلم والإرادة، وهو الذي أخرج هذا القضاء من العدم وأوجده، وهو الفعّال لما يريد، ولا يجب أيّ شي عليه تجاه خلقه.
5- وأما المقضيّ فيسعك أن تتعامل معه وفق ما يترتب عليه من أحكام، فلك أن تعترض عليه إذا كان حراماً أو مكروهاً، وعليك الرضا به والخضوع له إذا كان واجباً، والأخذ به إذا كان مندوباً، والخيار فيه إذا كان مباحاً؛ ويسعك أن تشعر بالغضب والحزن والتعاسة والبهجة… في هذه المقدورات بحسب أثرها عليك.
6- وليس مطلوباً منك أن تستطيب البلايا، أو تلتذّ بنزول المصائب، أو تطلب تكرار الحوادث الموجعة، فإن الله تعالى لم يكلّف الناس فوق ما يستطيعون مما استقرت عليه طباعهم، وقد حزن رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه لموت زوجه خديجة، وابنه إبراهيم وابنتيه رقيّ’ وأمّ كلثوم، وتوجّع غاية الوجع بمقتل عمّه حمزة في أحد، وبكاه، واستبكى فيه الناسَ: (لكن حمزة لا بواكي له)، وتأذى لمقتل أصحابه والغدر بهمفي بئر معونة ودعا على قاتليهم دعاء طويلاً، وانفطر قلبُه من الإفك الذي أصاب زوجه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها… وكل ذلك لم يجعله يعترض أو يتسخّط، بل يرضى، ويحتسب، ويجعل أمره لربّه.
7- وربما يسعك أن تشعر بسكون النفس عند الإصابة بإحدى البلايا والرزايا، وهذه مرتبة لستَ مكلّفاً بها، وقد ارتضاها لنفسه نبي الله أيوب عليه السلام لأنها موضوع رسالته، وفي الخبر: ولأَحدُهم كان أشد فرحاً بالبلاء، من أحدكم بالعطاء..
8- وإباء المقدورات المكروهة من التدافع الذي أُمرنا به، لنجتهد في تغييرها، فإن القبول بالرسوب مثلاً يدفع إلى الخيبة والفشل، والرضا بالظلم يدفع إلى الذل والركون.
9- والرضا بالقضاء عبادة قلبيّة عظيمة الجدوى في تثبيت النفس وإعظام الأجر في العاقبة، وكان من دعاء النبي: «وأسألك الرضا بعد القضاء»، ومن دعائه أيضاً في حديث الاستخارة: (واقدُرْ لي الخيرَ حيث كان، ثم رضّني به).
10- وإنما يسلّينا ما ثبت في الصحيح أن رسول الله جعلَنا من ذوي الشرف وأمثال الأنبياء في تعرّضنا للمصائب والمحن، وقال: (أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)، وذلك هو سبب الإمامة في الدين كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)، وقال صلوات ربي وسلامه عليه: إن عظم الجزاء على عظم البلاء، وإذا أحب الله قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط.