د. حسن سلمان يكتب: ما المراد بالغايات القرآنية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد: فإن القرآن الكريم كتاب هداية ورشد ورحمة وبشرى للمسلمين كما أنه كتاب نذارة للكافرين، ويشتمل على منهاج متكامل للحياة يعيش المسلم على ضوئها ليحقق السعادة في الدارين، ومما اشتمل عليه الكتاب العزيز الغايات الكبرى التي ترمي إليها الأحكام لتحقيق الوجود الإنساني الراشد في الأرض.
ونتناول هذه الغايات القرآنية في عدة حلقات بعنوان (غايات قرآنية) وهي جملة من المقاصد والغايات والرؤى والقيم والأهداف الكلية الواردة في كتاب الله تعالى والتي تشد المؤمن نحو المعالي والمثل العليا وترتقي به في مدراج السائرين ومقاصد السالكين إلى الله تعالى بعيدا عن التردي والانحطاط الذي يصاحب الإنسان عندما يبتعد عن هدايات السماء.
ما هي الغايات القرآنية:
(الغايات القرآنية) عبارة عن مفردتين وهما (غايات / قرآنية)
ونبدأ بالغايات وهي من الكلمات المشهورة – مثل كلمة الأهداف وكلمة الوسائل – سواء عند الذين يدرسون الدراسات الشرعية أو الدراسات الأكاديمية وخاصة علوم الإدارة فهي مفردة ومصطلح حاضر بشكل مكثف على صعيد الأفراد والجماعات والدول والتي غالبا ما يتم صياغتها بشكل مدروس ودقيق (الغايات / الأهداف / الوسائل) وفي غالب الجهات الرسمية والشعبية المؤسسة يتم صياغة هذه المسائل بشكل منظم ومدروس ومكتوب بعناية ودقة فائقة يتم فيها تحديد الرؤى والغايات الكلية ووضع الأهداف والوسائل.
فماهي الغايات؟
نعني بالغايات: الأهداف والمرامي والمقاصد التي يتوخاها الإنسان ويسعى إليها أو هي: النهاياتُ بعيدة المدى التي يرمي إليها الإنسان في مسيرة حياته.
فالغاية دائما تكون بعيدة ، فمثلا – حتى نقرب الصورة – الطالب في بداية التعليم تكون أهدافه معرفة القراءة والكتابة ثم تطوير ذاته ثقافيا ويقطع في ذلك مراحل تعليمية عديدة فهذه يمكن أن ندرجها ضمن الأهداف القريبة وغالبا ما تكون له غاية بعيدة ينتهي إليها في السلك التعليمي وهي حصوله على مهنة أو صنعة أو وظيفة تقوم عليها حياته فهذه غايته البعيدة من التعليم وقد يكون تفكيره أبعد من مطالبه الشخصية حيث يفكر لشعبه وأمته بل ويتجاوز بغايته الحياة الدنيا لتكون غاياته الدنيوية مربوطة بالمستقبل الأخروي والمصير والمنتهى الأبدي حين يرجع إلى الله تعالى وهذه طريقة كثير من الناس يبدأ بغاية دنيوية فينتهي به العلم إلى غاية أسمى وأرفع وأنفع كما قال بعض السلف ( الإمام الغزالي رحمه الله ) ( طلبنا العلم للدنيا فأبى أن يكون إلا لله )
وهكذا فإن هذا الطالب ليصل إلى الغاية النهائية لديه جملة من الأهداف، وجملة من الوسائل ويعمل على الاستفادة من كافة الموارد المتاحة لديه.
والخلاصة:
إن الغاية:
هي أعظم ما يتمناه الفرد في حياته وتشكل له الرؤية والمنظور البعيد، والهدف:
هو عبارة عن نهاية عملية لبداية نظرية لتحقيق الغاية المرجوة (فالهدف يتم الوصول إليه عبر جملة من الأعمال والبرامج والمناشط) ومن أهم شروط الهدف:
أن يكون واضحا ومحددا
أن يكون قابلا للتحقيق (الواقعية)
أن يكون محددا بزمن
أن يكون قابلا للقياس
والوسائل:
هي الأدوات العملية التي يسلكها أو يستخدمها الإنسان لتحقيق الهد.
(والغايات نوعيَّةٌ وشاملةٌ، وفي نفس الوقت ذات بُعْدٍ سامي ومرامي بعيدة والاهداف محددةٌ وكَمِيَّةٌ، والوسائل متجددة وعملية ولها أحكام غاياتها ومقاصدها)
والإنسان العاقل هو الذي يحدد غاياته وأهدافه ووسائله ويعرف حجم القدرات التي لديه والمطلوبة لتحقيق ما يريد وما هي التحديات التي يتوقعها والفرص الممكنة والمتاحة له ودراسة كيفية تلافي التحديات والمشكلات ويعرف بأنه مسؤول عن كل خطوات وأن مآله يتوقف على كسبه وعمله وبذلك يخرج عن دائرة الفوضى والعبث وغياب الوجهة والقصد.
ما هي الغايات القرآنية:
من يستقرئ ويتدبر كلام الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يخرج بكنوز من الغايات والمقاصد الكبرى المبثوثة في الأحكام الشرعية التفصيلية وأساس هذا الأمر ينطلق من نفي العبثية والفوضى والارتجال عن أفعال الله وأقواله أي في الخلق والأمر قال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم الينا لا ترجعون} آية 15 المؤمنون.
فوجود الخلق وإنزال الكتب وإرسال الرسل يستحيل أن يكون عبثا بلا غاية مقصودة ومرادة لله تعالى وهذا ما يجعل للحياة معنى.
وإن نفاة مفهوم العلية (التعليل) من المتكلمين والفلاسفة وغيرهم فلا أحد منهم يستطيع أن يرد ما هو استقرائي في كتاب الله تعالى – كما يقول العلامة الشاطبي رحمه الله في كتابه الموافقات –وذلك لأن الله سبحانه وتعالى من أسمائه: الحكيم، والحكيم هو الذي يضع كل شيء في موضعه ولغاية معلومة عنده، فلا يفعل الأشياء عبثا جل جلاله فخلقه وأمره كله لحكمة بالغة فإذا كان أن الله سبحانه وتعالى له غايات وحكم في خلقه و أمره فماذا نعني تحديدًا بالغايات القرآنية؟
إن علماء الشريعة يقسمون الأحكام الشرعية العملية إلى قسمين هما:
الأول: العبادات:
وهي الشعائر التعبدية من صلاة وزكاة وصلام وحج وهذه الأصل فيها التعبد وليس التعليل مع الإقرار بأنها في الجملة شرعت لحكمة وغاية قد تخفي على كثير من الناس فمثلا الغاية الكلية للشعائر التعبدية هي الارتقاء الروحي والنفسي وتحقيق حب الله والرغبة فيما عنده من ثواب وجنة والخشية والخوف عقابه وناره وهي غاية عظيمة من غايات الوجود الإنساني (تحقيق العبودية).
الثاني: المعاملات:
وهي ما تعلق بحياة الناس المعيشية وعلاقاتهم البينية كالبيع والشراء والمعاملات الأسرية والأحوال السياسية العامة والعقود والمعاهدات وغيرها، وهذا المجال الأصل فيه التعليل ومعرفة الحكم والمصالح والغايات الكلية ولعل من أهم الغايات الكبرى في هذا القسم هو رعاية مصالح العباد في دنياهم وتحقيق العمران في الأرض بتنظيم العلاقات الإنسانية وعلاقات الإنسان بالطبيعة من حوله حتى تكون الأرض صالحة لبقاء الجنس البشري وبتحقيق غاية التعبد وغاية العمران يتحقق الاستخلاف البشري المراد من خلق آدم ابتداء.
قال تعالى عن غاية التعبد: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} الذاريات 56
وقوله تعالى عن غاية العمران: {واستعمركم فيها} هود 61
ويجمع ذلك كله غاية الاستخلاف باعتبارها الغاية الكلية الكبرى للوجود البشري كما في قوله تعالى:(وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی جَاعِلࣱ فِی ٱلۡأَرۡضِ خَلِیفَةࣰۖ قَالُوۤا۟ أَتَجۡعَلُ فِیهَا مَن یُفۡسِدُ فِیهَا وَیَسۡفِكُ ٱلدِّمَاۤءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّیۤ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ) البقرة/30
ومحصول القول فإن الغايات الكبرى للشريعة في أحكامها هي التعبد والعمران وكلاهما يندرج في غاية الاستخلاف بمفهومه القرآني.
ويمكن القول بطريقة أخرى بأن غاية الاستخلاف لا تتحقق إلا بإقامة العدل والقسط وذلك لا يتحقق إلا بالتوحيد الخالص والعمران الصالح قال تعالى {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} الحديد 25
ويظهر القسط والعدل باعتباره من الغايات الكبرى لإرسال الرسل وإنزال الكتب وتجريد سيوف الجهاد في سبيل الله وإقامة الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويجب مراعاة هذه الغاية في سلوكيات الأفراد والمجتمعات والدول والحضارات:
(ليقوم الناس بالقسط)
ولما كان موضوع الغايات والحكم والمقاصد واضحا وبينا من استقراء الشريعة ونصوصها فقد برز علم خاص من داخل علم أصول الفقه وهو علم المقاصد وكتب عنه الكثير من علماء الشريعة وأصولها ومن أشهر من أظهر معالمه وجمع أسسه وكلياته المتناثرة في كتابات من سبق هو العلامة الشاطبي رحمه الله في كتابه الموافقات والتي نص كغيره على المقاصد الكلية للشريعة وهي:
الدين / النفس / العقل / النسل /المال وهي قابلة للتفصيل أكثر وإبراز مقاصد جزئية عن كل مقصد كلي ولكن المراد هنا هو التأكيد على وجود مقاصد كلية للشريعة يجب مراعاتها. ونواصل إن شاء الله