مقالات

مختار محمود البرعي يكتب: الدكتور عبد الصبور شاهين

قادتني أقداري إلى أداء صلاة الجمعة الماضية في جامع عمرو بن العاص بمصر القديمة. لا أخفيك سرًا أنني افتقدتُ في هذا المقام إلى فضيلة العالم الجليل والمتحدث البارع الدكتور عبد الصبور شاهين. كان «شاهين» خطيبًا مُفوَّهًا، ذا حضور طاغٍ وجرأة استثنائية.

 واليومَ.. تحلُّ ذكرى وفاة هذا العالم الكبير الذي غيَّبه الموت في مثل هذا اليوم قبل أربعة عشر عامًا، فوجب علينا أن نذكره بخير؛ لأنه كان أهلاً لذلك، وجديرًا بكل خير.

فضلاً عن أستاذيته في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة وغيرها من الجامعات العربية، فقد كان «شاهين» متحدثًا مُفوهًا وخطيبًا بارعًا، حيث قضى من عمره 10 سنوات كاملة خطيبًا لجامع عمرو بن العاص، أقدم الجوامع والمساجد المصرية، وكان الناس يومئذ يقصدونه من كل فجٍّ عميق؛ ليشهدوا منافع لهم في العلم والمعرفة.

 أثرى «شاهين» المكتبة العربية والإسلامية بعشرات المؤلفات والكتب المختلفة التي بلغت 65 كتابًا على أقل تقدير.

 يُعَدُّ كتابُ «تاريخ القرآن» واحدًا من الكتب المهمة والبارزة في إنتاج «شاهين»؛ لاعتنائه بتاريخ القرآن الكريم والردِّ على الطاعنين والمُشككين فيه.

 الكتاب -الذي يقع في 9 فصول ويحتوي على 306 صفحات- يناقش تاريخَ القرآن الكريم، وما يتعلّق به من قضايا مثل: الأحرُف السبعة، ونقل القرآن، وقضية المصاحف، وغيرها من القضايا والإشكاليات التي خاض فيها الخائضون بغير علم وبسوء نية.

كتب «شاهين» كتابه مُتسلحًا بعلم واسع وغزير، ونيَّة صادقة مخلصة؛ حيث كانت رسالته في الماچستير عن: «أثر القراءات في الأصوات والنحو العربي»، فيما جاءت رسالته للدكتوراه تحت عنوان: «القراءات الشاذّة في القرآن الكريم».

يستهلُّ «شاهين» كتابه بوضع تعريف دقيق للقرآن الكريم وهو: (القرآنُ كلامُ الله المُنزَّل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، بوساطة الوحي، مُنجّمًا في شكل آيات وسور، خلال فترة الرسالة التي دامت ثلاثًا وعشرين سنة، مبدوءً بفاتحة الكتاب، مختومًا بسورة «الناس»، منقولًا بالتواتر المطلق، برهانًا مُعجزًا على صدق رسالة الإسلام).

 في موضعٍ تالٍ.. ينتقل «شاهين» بسلاسة إلى تحديد السُّوَر المكيَّة والمدنيَّة، ويفصِّل القولَ في هذا الأمر تفصيلاً.

 بعد ذلك.. يتطرقُ الكتابُ إلى إشكالية «التنجيم» والحُكم منه؛ منوهًا إلى نزول القرآن الكريم مُقسَّمًا عبر الزمن؛ ليتكامل المكيُّ منه والمدنيُّ في تقرير الأحكام النهائية للشريعة.

وفي موضع آخر من الكتاب.. يناقش «شاهين» قضيةَ أسباب النزول؛ مُنتهيًا في ذلك إلى القاعدة الراسخة بأنّ «العِبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب»، مع التأكيد على بقاء السبب جانبًا من تاريخ النصّ يُسترشَد به في بيان المراد أصلًا.

 قضية «النسخ» أخذت من اهتمام المؤلف الشيء الكثير؛ لا سيما أنها من أكثر القضايا التي يخوض فيها الجاهلون بغير علم ولا هدي ولا كتاب منير، حيث يخلص إلى أنّ قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}، قد لا يكون مقصودًا به الآية القرآنية، وإنما المعجزات والأديان التي نُسخت بالقرآن والإسلام.

 يقرُّ «شاهين» ثبوت النصّ القرآني الحالي بالتواتر المطلق، بما لم يتوفّر لأيّ كتاب غيره، مشددًا على أن المسلمين حافظوا على الرّسم المُصحفي رغم تطوّر قواعد الإملاء، حتى أصبح ذلك الرسم شرطًا لصحة القراءة؛ الأمر الذي أكسبه حَصانةً صانته من أيّ تحريف قد ينشأ مِن تغيُّرِ قواعد الإملاء.

 في فصل آخر.. تناول «شاهين» أحكام التلاوة القرآنية؛ ليوضح أنها جاءت بتطبيق مباشر من النبيّ يتبع فيه أمر الوحي بالتلاوة حينًا، والترتيل حينًا، والتبيين بالقراءة على مُكْثٍ حينًا آخر، ولا يمكن أن تأتي القراءة القرآنية إلا بالتلقين؛ فتوفّرت في قراءته دقةُ الأداء، وفصاحةُ اللغة، والمحافظةُ على بيان كلّ صوت، ثم جمال الصوت وتطريبه.

 الكاتب والمؤلف الكبير توسَّع في الحديث عن أمر القراءات المختلفة للقرآن الكريم، منوهًا إلى أنها كانت -في البداية- من باب التيسير على المسلمين من غير اللسان القرشي.

وفي قضية الإعجاز القرآني.. انتهى «شاهين» إلى أنّ فكرة إعجاز القرآن فكرة أبدية لَزِمته منذ أُنزِل حتى نهاية الزمان، وأنّ لكلّ جيل إدراكه الخاصّ منها بما يتناسب مع ثقافته، وأنّ القرآن ثروة لغوية لم تشهدها لغة من لغات البشر، فوسِعت ألفاظه الدلالة على كلّ حقائق الكون المنظور والمستور، وهذا أعظم أسرار إعجازه في نظر الكاتب.

وإجمالاً.. فإنَّ كتاب «تاريخ القرآن» من الأسفار العظيمة التي يجب الاعتمادُ عليها في الردِّ على الطاعنين والمُستهزئين والمُتشككين في كتاب الله تعالى، كما إنه يُنبئ عن عالم ومفكر من طراز فريد لم ينل التقدير المناسب في زمنه أو بعد وفاته..

رحم الله تعالى الدكتور عبد الصبور شاهين وأحسن إليه وجزاه خير الجزاء، وأخزى خصومه وكارهيه والمتطاولين عليه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى