الأمة الثقافية

“المتنبي في مرآة الاستشراق”..كتاب يكشف رؤية المستشرقين للشعر العربي

الأمة: تتميزُ دراسةُ المستشرق الفرنسي “ريجي بلاشير”، حول المتنبي، والتي نال على إثرها درجة الدكتوراه بجامعة السوربون، بأنّها لم تلمّ بالمتنبي شخصًا وشعرًا فقط، بل رصدت الظروف الاجتماعية والسياسية والفكرية والعقدية في القرن الرّابع،

فإنّ الباحث الأردني حمزة أمين يدرسُ تلكَ الدراسة- الأطروحة، لأنّها تمثّل رؤية غربيّة موجهة للغرب، وتتناول ظاهرة شرقيّة مثَّلَها المتنبي، من خلال كتابِه الجديد “المتنبي في مرآة الاستشراق”.

ويبيّن المؤلف، في مقدمته للكتاب، أن اختياره وقع على رؤية “بلاشير”؛ لأنها لم تقتصر على شخصيّة المتنبي وشعريّته فقط، بل امتدّت لتشمل إعادة رسم ملامح الأطر التاريخية والسياسيّة والفكرية التي تحرّك فيها المتنبي، ثم إعادة ترتيب التاريخ الشعري للمتنبي على نحو دقيق،

دون إغفال أهم السمات الفنيّة في شعره. كما أنّ رؤيته تمثّل نظرة الغرب لظاهرة نقديّة أدبيّة عربيّة؛ فلم يتميّز جهده بوصفه باحثًا فحسب، بل بوصفه مستشرقًا يطبّق على الأدب العربي الأدوات نفسها التي يطبقها على الأدب الأجنبي؛ ما قد يؤدي إلى بعض الخلط في النتائج والأحكام.

أمّا الناقد الدكتور غسان إسماعيل عبدالخالق فيلفتُ النظرَ، خلال تقديمه للكتاب، إلى أنّ الباحث حمزة أمين اشتبك، عبر كتابه الجديد، “مع مسألتين على جانب كبير من الالتباس والتعقيد، وهما: المتنبي من جهة، والاستشراق من جهة ثانية.

ولا أبالغ إذا قلت إن الباحث لم يدّخر وسعًا، لتسليط الضوء على كثير من غوامض هذا الالتباس؛ فالمتنبي كان وما زال وسيظل قارّة يحوطها كثير من الغموض، و”بلاشير” كان وما زال وسيظل مستشرقًا إشكاليًا له ما له وعليه ما عليه”.

الكتاب نفسه، وقد صدر حديثًا عن “الآن ناشرون وموزعون”، في الأردن (2025)، في 130 صفحة من القطع المتوسط، جاء في مقدمة وتمهيد وفصلين وخاتمة؛ فتناولَ في التمهيد المرآة بالمعنى الذي يعين على عكس الصورة التي رسمها المستشرق “بلاشير” للغرب، ثم عرّف بالاستشراق، وترجم للمتنبي، والمستشرق “بلاشير،

ثم عرض لصورة المتنبي عند المستشرقين. وتناول المؤلّف في الفصل الأوّل التاريخ الشعري للمتنبي من منظور “بلاشير”؛ فاشتمل الفصل على التيار العقدي والفكري الذي وجّه المتنبي، ثم الإطار الزمني/ الشعري للمتنبي،

واختُتِمَ الفصل بالأغراض الشعريّة التي أشغلت المتنبي من منظور “بلاشير”، وهي: المديح، والهجاء، والوصف، والغزل، والحكم والمواعظ.

وقد خصص المؤلّف الفصل الثاني للسمات الفنيّة لشعر المتنبي من منظور “بلاشير”، فعمل على إبراز أهم السّمات التي شكّلت ديوان الشاعر، والتي أطال “بلاشير” النّظر فيها، وهي: الغامض والغريب، وولوع المتنبي بالتشبيه والاستعارة، والطباق بوصفه ظاهرة، وحسن التخلّص.

ويُختتمُ الكتابُ بخاتمة، يقولُ فيها المؤلّف إنه سعى، من خلال دراسته، إلى إبراز صورة المتنبي بوصفه ظاهرة نقديّة في القرن الرّابع عند المستشرقين بوجه عامّ، والمستشرق “بلاشير” بوجه خاصّ، وقد خَلُصَتْ إلى جملة من النتائج والتوصيات، نوردها على النحو الآتي:

أولًا: لم يتجلَّ المتنبي في مخيال الاستشراق بصورة واحدة، بل عاش فيه صورًا متعددة بحسب رؤية كل مستشرق وحقله؛ فمنهم من وضعَ أهميّة المتنبي في التأريخ، ومنهم من أرجأ أهميته إلى علم الجغرافيا، ومنهم من صنّفه ضمن الشّعراء العباقرة.

ثانيًا: تمثّل دراسة “بلاشير” عن المتنبي دراسة غربيّة عن ظاهرة نقديّة؛ مّثلها أحد أهم الشعراء في القرن الرّابع الهجري، قد خاطب فيها المثقّف في الغرب.

ثالثًا: تمثّل دراسة “بلاشير” عن المتنبي دراسة نقديّة غنيّة اتسمت بالشمول، قارب فيها المتنبي من كل مناحي حياته؛ التاريخية والثّقافيّة والدّينيّة والأدبيّة والاجتماعيّة والبيئيّة.

رابعًا: على الرغم من أنّ المتنبي يمثّل ظاهرة تأجيج النقد بين التيار القديم والتيار المحدَث في الشعر العربي، فإنّ هذا التأجيج لم يكن بحكم التعصّب للقديم كما قدّم “بلاشير”، بل لأن المتنبي جمع بين القديم والمُحدَث.

خامسًا: ظلّ المتنبي مقيّدًا ضمن الأغراض الشعريّة والسمات البلاغيّة التقليديّة، ولم يستطع يومًا الخروج عنها؛ لكونها متحدّرة من الثقافة العربيّة الغالبة وهي سلطة القصيدة الجاهلية؛ بوصفها ممثلة للعقل العربي، وقد اجتهدنا في تبيان ذلك من خلال الأدلة والبراهين.

سادسًا: أظهرت هذه الدّراسة أنّ البلاغة عند المتنبي تتأتّى من كيفية قوله للقصيدة، وقد أبرزنا خمس سمات بلاغيّة كما وردت عند “بلاشير” لندلل على ذلك. وقد بينّا طريقة عمل المتنبي التي تقوم على جملة من الإجراءات البلاغية والنحوية واللغوية جعلته متقدمًا على شعراء القرن الرابع الهجري.

سابعًا: لقد بدا الشعر في القرن الرابع الهجري أسير فلك الصنعة والتكلّف، ورغم ذلك استطاع المتنبي أن يأتي بالشوارد والنوادر، لِما تملّك من سعة المعرفة وقوة الحفظ وكثرة الاطّلاع على آثار القدماء، لا سيّما الفلسفة اليونانيّة.

ثامنًا: أظهرت هذه الدراسة أنّ المؤسسة الاستشراقيّة مختبر تطبيقي واسع، يمكن أن يغني الدّرس النقدي في الشرق.

تاسعًا: يوصي الباحث بضرورة إعادة النظر في الدراسات الاستشراقيّة، والابتعاد عن الأحكام المسبقة قبل العمل النقدي الموضوعي.

عاشرًا: يوصي الباحث بضرورة توجيه الدرس النقدي في الوطن العربي باتجاه المؤسسة الاستشراقيّة لكونها مؤسسة معرفيّة انغمست في تحليل الأدب العربي، ولِما تحتويه من آثار معرفيّة تغني النقد في الشرق.

حادي عشر: يوصي الباحث بضرورة إيلاء المادة الاستشراقيّة في الجامعات العربيّة بوجه عامّ وأقسام دراسات اللغة العربيّة بوجه خاصّ؛ من خلال وضع مساق واحد على الأقل للتعريف بالاستشراق إيجابًا وسلبًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى