مقالات

أحمد سعد يكتب: هيئة العدالة الانتقالية.. صُمنا ثم أفطرنا على «بصلة»

أعلنت الرئاسة السورية، السبت 17/5/2025، تشكيل «الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية» وذلك إيماناً بضرورة تحقيق العدالة الانتقالية كركيزة أساسية لبناء دولة القانون، وضماناً لحقوق الضحايا، وتحقيقاً للمصالحة الوطنية الشاملة”، وفق المرسوم الرئاسي الذي حدّد مهام الهيئة بـ«كشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي تسبب بها النظام البائد، ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها بالتنسيق مع الجهات المعنية، وجبر الضرر الواقع على الضحايا، وترسيخ مبادئ عدم التكرار والمصالحة الوطنية».

إن الحديث عن محاسبة المجرمين وتحقيق العدالة هو الحديث الأبرز في سوريا منذ إسقاط نظام الأسد، نظراً للجرح الغائر الذي حفره النظام في جسد الأهالي الذي كانوا يتشوّقون لرؤية المجرمين معلّقين على أعواد المشانق حتى يبرّدوا قلوبهم، لكن مضت الأيام والأشهر دون تحقيق ذلك، وقِيل للناس «عليكم الانتظار قليلاً حتى يستتبّ الأمن وتتمكن الدولة»، فانتظَروا وصبروا حتى يأتي اليوم الموعود، لكن يبدو أنهم مع تشكيلة هيئة العدالة الانتقالية «كمن صام ثم أفطر على بصلة»، بحسب المثل العامَي الشهير.

وقد يُقال هنا «أين المشكلة بهذه الهيئة وقد جاء في مرسوم تشكيلها أنها ستعمل على كشف الحقيقة ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات وجبر الضحايا؟ أليس هذا هو المطلوب؟» والجواب أن العبرة ليست بالكلمات بل بالآليات والغايات، فأول ملاحظة على الهيئة أنها مرتبطة بالدولة من حيث التأسيس والتمثيل وأُطر العمل، وقد اتّضح لكل متابع كيف أن الدولة لم تقتص من كبار مجرمي الأسد، وتركت بعضهم طلقاء، رغم قدرتها على اعتقالهم، مثل فادي صقر، بل إنها أطلقت سراح مجرمين قامت الأدلة المغلّظة على انتهاكاتهم، مثل جميل سلوم، قاتل الشهيد إبراهيم اليوسف، فأن تكون الهيئة تابعة للدولة هو أمر يحدّ من صلاحياتها، ويثير الشكوك الناس حولها. وحتى تكتسب الهيئة مصداقية حقيقية، يجب أن تكون مشكّلة من الأهالي المتضرّرين، والناجين من المعتقلات، والناشطين المخلصين الذين وثّقوا الانتهاكات على مدار سنوات، ونبغي أن تكون الدولة ملزَمة بتنفيذ التوصيات التي توصلوا لها، من حيث تحديد المجرمين، والقصاص منهم، وتعويض الضحايا.

أما الملاحظة الثانية عن الهيئة فتتعلق بموضوع المصالحة، حيث ذُكر بالمرسوم أن من أهداف تشكيل الهيئة «تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة»، و”ترسيخ مبادئ عدم التكرار والمصالحة الوطنية”، وهذا غلط استراتيجي فادح، فما حصل في سوريا هو إبادة من نظام مجرم لشعب مسلم طالب بحقوقه، ولم يكن حرباً أهلية أو اقتتالات مناطقية حتى يُقال: “يجب الوصول لمصالحة وطنية”، ثم مصالحة مَن؟ وكيف تكون المصالحة وأحد طرفي النزاع ظالم متجبر، بينما الطرف الآخر أُناس مظلومون فقدوا ذويهم وأحبّاءهم؟ كلا، بل يجب إقامة العدل، وإحقاق الحق، ولَئن فرّ رأس الإجرام وحاشيته المقربة، فما زال لهؤلاء أعوان وأدوات يتجوّلون بحرية، ويصولون ويتطاولون في البلاد، فيجب محاكمتهم على رؤوس الأشهاد حتى يكونوا عبرة للأجيال.

الملاحظة الثالثة، أن مرسوم تأسيس الهيئة لم يبيّن القوانين التي تنظّم عملية المحاسبة، هل هي قوانين علمانية مدنية أم قوانين شرعية؟ إذ ثمة فارق مهول بين الأمرين، ففي القوانين المدنية، قد يُكتفى بالحَجر على ممتلكات المجرم وحكمه عدة سنوات أو حتى بالمؤبد، لكن هذا ليس الحكم العادل مطلقاً، إنما العدل يكون بالأحكام الإسلامية التي حدّدت طريقة التعاطي مع القاتلين بخيارين، فإما القصاص، وإما أن يعفو ولي الدم مقابل دفع الدية. أما الأمور التي لا تصل حد القتل مثل الضرب والتعذيب في السجون، فثمة عقوبات تعزيرية يقرّرها القاضي بحسب المتهم ومدى جُرمه، في حين أن أعمال قطع الطريق وسلب الأموال يُطبق عليها حد الحِرابة وفق الجرائم التي اقترفوها.

إن الدولة اليوم على مفترق طرق، فإما أن تمضي بالأمور على وجهه وتقوم بدورها “الثوري” في القصاص من جميع القتلة دون انتقاء أو تمييز، وإما أن تتغافل عن ذلك لقاء صفقات مالية أو ضغوطات خارجية أو مصالح موهومة، فتنقلب عليها حاضنتها الشعبية، وتنفلت الأمور إلى ما لا يُحمد عُقباه.

منتدى قضايا الثورة

أحمد سعد فتال

ناشط سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى