
نشرت صحيفة “ستار” التركية مقالا للكاتب “إينجين أوزيكينجي”، ذكر فيه أن بعض الأصوات المثيرة للجدل في قبرص التركية بدأت في الآونة الأخيرة تروج خطابات معادية للحجاب، وتطلق اتهامات لتركيا بوصفها “قوة احتلال”، وهي مواقف تعكس توجهات جماعات هامشية لا تمثّل التيار العام في الجزيرة.
وتعاني قبرص منذ 1974 انقساما بين شطريها؛ التركي في الشمال والرومي في الجنوب، وفي 2004 رفض القبارصة الروم خطة قدمتها الأمم المتحدة لتوحيد شطري الجزيرة.
ومنذ انهيار محادثات إعادة توحيد قبرص التي جرت برعاية الأمم المتحدة في كرانس مونتانا بسويسرا في يوليو/ تموز 2017 لم تجر أي مفاوضات رسمية بوساطة أممية لتسوية النزاع في الجزيرة.
في 9 أبريل/ نيسان 2025 أقرَّ مجلس الوزراء في قبرص التركية تعديلات على اللائحة التأديبية التي تحدد زي الطلاب في المدارس الثانوية، مما سمح للطالبات بارتداء الحجاب في المدارس الثانوية، في خطوة أثارت غضبا علمانيا في قبرص وعدد من الدول الأوروبية.
قضية الحجاب في قبرص التركية
ففي فترة 28 فبراير/ شباط 1997 شهدت البلاد تضييقا واسعا على المحجبات، مُنعت فيه الطالبات من الدراسة، وانتشرت ممارسات قمعية مثل “غرف الإقناع” التي تركت أثرا نفسيا عميقا في المجتمع.
واليوم تتكرر هذه المشاهد في شمال قبرص، ما يطرح تساؤلات عن دوافع هذه العقلية التي ترى في الحجاب تهديدا، وعن الجهات التي تسعى لإحياء نماذج قمعية لم يكن لها مكان في المجتمعات الديمقراطية.
في خضم النقاشات السياسية الحادة التي تشهدها قبرص التركية أخيرا، تبرز قضية الحجاب كوجه جديد لهجوم ثقافي مقلق يستهدف القيم الدينية والهوية الشخصية.
فلم تعد المسألة محصورة في التوترات الجيوسياسية أو الخلافات حول السيادة والدور التركي، بل امتدت لتنال الحريات الفردية وعلى رأسها حرية ارتداء الحجاب، الذي يمثل للكثيرين ليس فقط رمزا دينيا، بل أيضا تعبيرا عن الذات والكرامة الشخصية.
والمواقف التمييزية التي بدأت تظهر في بعض المؤسسات التعليمية والتي حظيت بدعم من بعض النقابات، مثل منع طالبة من دخول مدرسة إرسن كوتشوك الإعدادية بسبب ارتدائها الحجاب، أعادت إلى الأذهان مشاهد مؤلمة من تاريخ تركيا القريب.
أصل الصراع بين الجانبين
في العام 1974 تدخلت تركيا في الجزيرة ضمن عملية “السلام في قبرص”، وذلك استنادا إلى وضعها كدولة ضامنة بموجب اتفاقيتي زيورخ ولندن، ولحماية القبارصة الأتراك من تهديد التطهير العرقي الذي كانوا يواجهونه آنذاك.
وتجاهل هذا الأساس القانوني والتاريخي، والسعي لتصوير تركيا كـ”قوة محتلة” يعكس محاولات لتضليل الرأي العام الدولي من خلال سرد أحادي يخدم أجندات معينة.
جاء رد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حاسما خلال زيارته إلى شمال قبرص في الثالث من مايو/ أيار 2025، حيث قال: “رغم اختلاف أسمائنا، إلا أن لقبنا واحد حين يتعلق الأمر بقضية قبرص، وهو: قبرص التركية”، وقد قال ذلك في تعبير رمزي عن وحدة المصير بين أنقرة وليفكوسا.
وأضاف أن “من يحاولون إفساد أخوتنا، وإحداث الفرقة بيننا، وزرع بذور الكراهية في هذه الأرض المباركة بدلا من السلام والطمأنينة لن ينجحوا”، مؤكدا أن تركيا ستواصل موقفها الثابت والداعم للقضية القبرصية التركية”.
موقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من الحجاب
هذه التطورات أثارت ردود فعل رسمية وشعبية، أبرزها موقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي وجَّه خلال مشاركته في مهرجان “تكنوفِست” يوم 3 مايو رسالة حاسمة بقوله: “من يحاول مضايقة فتياتنا بسبب الحجاب في شمال قبرص، سيجدنا أمامه”.
ولم يتوقف أردوغان عند حدود الدفاع عن الحجاب فقط، بل انتقد الذهنية التي تخلط بين التقدم والقيود قائلا: “من يرى التحديث في فرض القيود على اللباس بدلا من التقدم في العلم والتكنولوجيا والثقافة والفن، فمن الطبيعي أن يشعر بالخوف من مهرجان تكنولوجي مثل هذا”.
إن قضايا مثل الحجاب والحريات الفردية في قبرص التركية تتجاوز الإطار الاجتماعي أو الديني، لتتداخل مع مشروع سياسي وإستراتيجي أكبر تسعى تركيا لتحقيقه، ألا وهو حلم “تركيا الكبرى والقوية”.
هذا الحلم لا يقتصر على التنمية الاقتصادية، بل يشمل أيضا طموحا للريادة الإقليمية في المجالات الدبلوماسية والعسكرية والثقافية، ويتطلب حضورا فاعلا في مناطق إستراتيجية مثل شرق البحر المتوسط وعلى رأسها قبرص الشمالية.
تركيا وشمال قبرص شريكتان في المصير
وتُعد قبرص التركية بالنسبة لتركيا شريكا لا غنى عنه في معادلة التوازن الإقليمي.
ولا شك أن مصادر الطاقة، وترسيم مناطق النفوذ البحري، والتحولات الجيوسياسية في شرق المتوسط تجعل من هذه الجزيرة موقعا بالغ الأهمية لأنقرة.
ومن هنا، فإن العلاقات الوثيقة بين تركيا وقبرص التركية لم تعد مجرّد امتداد تاريخي أو عاطفي، بل باتت ضرورة أمنية وإستراتيجية.
لكن في مقابل هذا المشروع تبرز تحديات متعددة؛ منها حملات إعلامية وسياسية تصف تركيا بأنها “قوة احتلال”، وتهاجم رموز الهوية الدينية والثقافية كالحجاب.
تغيير قاعدة الحجاب في المدارس
أشعل قرار إدارة القبرصات التركية السماح في المدارس الثانوية مناقشة شرسة ، حيث أدانها نقابات المعلمين وشخصيات المعارضة كجزء من دفعة أوسع نحو المحافظة الدينية.
هذه الخطوة مثيرة للجدل بشكل خاص بالنظر إلى أن جمهورية قبرص الشمالية التركية كانت تقليديًا أكثر علمانية وليبرالية اجتماعيًا من تركية البر الرئيسي ، حيث نما التأثير الديني على السياسة على مدار العقود.
تتيح اللائحة الجديدة ، التي دخلت حيز التنفيذ، للطلاب ارتداء الحجاب لأسباب دينية ،شريطة أن تكون واضحة ، ذات ألوان واحدة وتتناسب مع الزي المدرسي.
وقعت حادثة في مدرسة إرسن كوتشوك الإعدادية في نيقوسيا، حيث منعت إدارة المدرسة طالبة في الصف الثامن من دخول الحرم المدرسي بسبب ارتدائها الحجاب، رغم تأكيد يوسف إنانير أوغلو، مدير دائرة التعليم الثانوي بوزارة التربية، أن من حق الطالبة متابعة تعليمها دون قيود.
غير أن إدارة المدرسة رفضت الامتثال لهذا التوجيه، ما أدى إلى تفاقم الأزمة.
وأعربت والدة الطالبة، نازلي شيمشك، عن استيائها قائلة: “نحن في عام ۲۰۲۵، وتعرضت ابنتي لضغوط نفسية، وحاولوا إقناعنا بالتراجع عن موقفنا.
للأسف، ابنتي لم تذهب إلى المدرسة منذ ثلاثة أسابيع، ومن المؤسف أن من يفترض بهم أن يكونوا معلمين هم من تسببوا في ذلك”.
وبعد تصاعد الجدل، تقدمت العائلة بشكوى رسمية إلى وزارة التربية والتعليم، مطالبة بالسماح لابنتهم باستكمال تعليمها دون تمييز.
وعرضت إدارة المدرسة نقل الطالبة إلى كلية الإلهيات كحل بديل، وهو ما رفضته العائلة تمامًا.
في ظل الضغوط المتزايدة، ناقش مجلس الوزراء في شمال قبرص التركية القضية، وقرر السماح للطالبات في المدارس الإعدادية بارتداء “البُرنُس” أو “الربطة القماشية” كبديل للحجاب.
غير أن القرار لم يصمد طويلاً، إذ تم التراجع عنه لاحقًا، ما أدى إلى تأجيج الاحتجاجات واستمرار الانقسام في المجتمع بين مؤيد ومعارض لهذا الإجراء.
المصادر:وسائل اعلام تركية ووكالات