أقلام حرة

أدهم شرقاوي يكتب: مدينة بلا مساجد!

مدينةُ الشَّهيدِ السَّاجدِ صارتْ اليوم بلا مساجد! لقد فهمَ الاحتلالُ الدَّرسَ بطريقةٍ أبلغ مما فهمناها نحن، فهمَ أنَّ هذه المآذن هي عبارة عن رماحٍ وأنَّ خاصرته لن تكون بمأمنٍ ما دامتْ واقفة بشموخ، وفهمَ أنَّ هذه القِباب هي خوذاتٌ حاميّة للعقيدة وأنّه لن يميّعَ عقيدتنا إلا إذا ساواها بالأرض، وفهمَ أنَّ المنابر لم تكن تُؤدي وظيفةً وعظيَّةً فقط، وإنما كانت على مدار أعوامٍ تصنعُ هذه البيئة الماردة التي احتضنتْ المقاومة، والأهم من هذا كلّه أنّه فهمَ بجلاءٍ أنَّ الخطرَ على وجوده لا يبدأ من أنفاق قوّات النخبة، وإنما ينتهي هناك! الخطر على وجود الاحتلال بدأ من حلقات التحفيظ، وبرنامج صفوة الحُفَّاظ! مئاتٌ من أبطال العبور المجيد في السّابع من أكتوبر كانوا يحفظون القرآن عن ظهر قلب، وكانت كتيبة الحُفّاظ أشدُّ كتائبنا بأساً، لهذا لم يترك الاحتلال مسجداً واحداً في غزَّة إلا وقصفه، هو لم يكن يستهدفُ جدراناً، وإنما كان يستهدفُ هذه الرُّوح التي بثَّتها المساجد في النَّاس!

المشهدُ الذي أذهل الاحتلال، وأذهلنا نحن أيضاً، هي صور حلقات التّحفيظ في خيم النُّزوح الغارقة بالمطر والطّين، وصور صلوات الجماعة في المدارس ومراكز الإيواء، فقد تبيّنَ أن المآذن والقِباب والمنابر كانتْ في صدور أهل غزَّة، وأنهم حملوها معهم حين غادروا! لقد دمَّرَ الاحتلال حجارة المساجد أمّا المساجد بروحها وقدسيّتها بقيت شامخة في قلوبهم! هذه المقاومة المذهلة لم تكن تصنعُ سلاحها فقط، وإنما كانت تصنعُ بيئةً مُقَاوِمة، لقد صنعتْ الإنسان المقاوم الذي لا يمكن هدمه حتى بقتله! لا أحد يمكنه أن يقتل فكرةً، وهنا يكمن سرُّ غزَّة أنّها اليوم فكرة أكثر منها مدينة! وأجمل ما في هذه الفكرة أنَّ غزَّة صنعتها تمَّ صدَّرتها، نحن جميعاً اليوم نُؤمن أن الاحتلال زائلٌ لا محالة، وأنّه اليوم إلى هذا الزّوال المحتوم أقرب منه إلى البارحة!

كلُّ هذا يدعونا نحن أن نتعلَّم الدَّرس الذي شرحته لنا غزَّة بدمها وإيمانها، وهو أنَّ المساجد شيءٌ أكبر من الجدران، وأشدُّ بهاءً من ارتفاع المآذن، وأكثر جمالاً من تكوُّرِ القِباب! ووظيفتها أسمى من أداء الصلوات ثم الانصراف إلى البيوت، هذه المساجد روح! المسجدُ في عهد النُّبوة لم يكن مضاءً ولكن منه حمل الصّحابة النُّور إلى كلِّ العالم، ولم يكن مفروشاً ولكن منه خرجتْ جيوش الفاتحين، ولم يكن مزخرفاً ولكنه تبيّن فيما أنّه كان الحجر الأول لحضارة الأندلس العظيمة! وهذه الأُمّة لن تعود سيرتها الأولى حتى تعي دور المسجد الحقيقيِّ!

هذه الحربُ ستنتهي عاجلاً أم آجلاً، ولا شكَّ أنَّ غزَّة ستخرجُ منها مكلومة ولكنّها بالمقابل ستخرج شامخة وعصيّة على الكسر، وستتعافى بإذن الله بوقت لا يتخيّله أحد، وحين تنتهي الحربُ علينا أن نعيد بناءها أبهى مما كانت عليه، وستكون مساجدها أمانة في أعناقنا جميعاً، عدد المدن في بلادنا أكبر من عدد مساجد غزَّة، فلمَ لا تبني كلَّ مدينةٍ مسجداً؟! دولار واحد من كل شخصٍ في المدينة، دولار واحد فقط! الحِملُ الذي تتقاسمه مدينة لا يبقى حملاً! تخيلوا معي بهاء هذا المشهد، أن يكون في كلِّ مدينة حملة لبناء مسجدٍ واحدٍ في غزَّة يُسمّى باسمها، مسجد بيروت في غزَّة، مسجد الدوحة وأبو ظبي، ومسجد الدار البيضاء ومسجد الرّياض، مسجد مسقط ومسجد القاهرة، مسجد بغداد ومسجد البصرة، مسجد أربيل ومسجد أنقرة واسطنبول والشارقة، مسجد وهران والدمام وبنغازي وبورسعيد! هذه مجرَّد فكرة سهلة للتطبيق، وكل الأعمال العظيمة بدأت بفكرة، فتعالوا نبدأ!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights