بحوث ودراسات

د. محمد أكرم الندوي يكتب: حديث الاستخارة في صحيح البخاري

سؤال: كتب إلى صاحبي الأستاذ العالم المحقق حسن محمود حفظه الله تعالى:

إلى فضيلة الشيخ الأكرم، العالم المربي، أكرمه الله وزاده رفعةً وتمكينًا، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أزفُّ إلى مقامكم الكريم أطيب التهاني وأسمى التبريكات بحلول عيد الفطر المبارك، جعله الله علينا وعليكم عيدَ خيرٍ وبركة، وتقبّل الله منّا ومنكم صالح الأعمال، وأدام علينا وعليكم نعمة الإيمان والإسلام، وأحاطكم بعنايته حيث كنتم، وبعد،

فقد عرض لي سؤالٌ في حديث الاستخارة الذي أخرجه الإمام البخاري في “صحيحه” والذي رواه عبد الرحمن بن أبي الموالي عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

إنّ هذا الحديث لم يُخرِجه الإمام مسلم، ولا الإمام مالك في “الموطأ”، مع أنّ عبد الرحمن بن أبي الموالي من أهل المدينة، وقد عدّه غيرُ واحد من أئمة النقد -كأبي زرعة، وأبي حاتم، وأحمد بن حنبل- صدوقًا لا بأس به وضعفه ابن معين في أحد قوليه بل وإنّ الإمام أحمد، على جلالة قدره وتقدّمه في علم العلل، قد وصف الحديث بالإنكار ولعل غيره قد أنكره كذلك.

ثمّ إنّا – فيما يبدو لي – لم يثبت لنا عن أحدٍ من السلف المتقدّمين عملٌ صحيح يدلّ دلالةً واضحة على اشتهار هذا الدعاء بعينه، بهذه الصيغة والهيئة على نحوٍ يُستَدلّ به على توارث العمل به في القرون المفضّلة.

فهل فيما أشرت اليه أعلاه كفاية في عدم قبول صحة الحديث لمن ركن قلبه إلى ذلك.

وما وجه اعتماد البخاري له، وإدخاله في “الصحيح”؟ أرجو من فضيلتكم بيان ذلك، زادكم الله من فضله، ونفع بكم العباد والبلاد.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الجواب:

 قلت: الجواب عن السؤال تحت أربعة عناوين: تخريج الحديث، والكلام فيه، والدفاع عن البخاري، وتأويل الحديث.

تخريج الحديث: قال البخاري في الدعوات، باب الدعاء عند الاستخارة: حدثنا مطرف بن عبد الله أبو مصعب حدثنا عبد الرحمن بن أبي الموال عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن، إذا هم بالأمر فليركع ركعتين ثم يقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله فاقدره لي وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به ويسمي حاجته.

وأخرجه البخاري أيضًا في الصلاة، بَابُ مَا جَاءَ فِي التَّطَوُّعِ مَثْنَى مَثْنَى عن قُتَيْبَة بن سعيد، وفي التوحيد، بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى “قُلْ هُوَ القَادِرُ” عن إِبْرَاهِيم بن المُنْذِرِ، عن مَعْن بن عِيسَى، كلاهما عن ابن أبي الموال به.

 وأخرجه أبو داود في الصلاة، باب في الاستخارة عن عبد الله بن مسلمة القعنبي وعبد الرحمن بن مقاتل خال القعنبي ومحمد بن عيسى، كلهم عن عبد الرحمن بن أبي الموال به، وأخرجه الترمذي في الصلاة، باب ما جاء في صلاة الاستخارة عن قتيبة عن عبد الرحمن بن أبي الموال به، وقال: حديث جابر حديث صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي الموالي وهو شيخ مديني ثقة روى عنه سفيان حديثا وقد روى عن عبد الرحمن غير واحد من الأئمة وهو عبد الرحمن بن زيد بن أبي الموالي.

 وأخرجه أيضًا النسائي وابن ماجه وجماعة من طريق ابن أبي الموال عن ابن المنكدر به.

الكلام في الحديث:

 تكلم الناس في الحديث من جهتين:

 الأولى أنها من رواية عبد الرحمن بن أبي الموال، وليس بذاك، ولم يخرج له الترمذي والنسائي وابن ماجه سوى هذا الحديث الواحد في الاستخارة، وليس من رجال مسلم أصلا، ومن ثم لا يوجد في صحيحه هذا الحديث.

 والثانية أن في الحديث غرابة ونكارة، ليست الغرابة في أن ينفرد به محمد بن المنكدر عن جابر، ولكن الغرابة في أن لا يرويه عن محمد بن المنكدر غير ابن أبي الموال، وأصحاب ابن المنكدر أئمة أعلام: مالك، وسفيان الثوري، وشعبة، وسفيان بن عيينة، والأوزاعي وغيرهم، وهذا متن خطير الشأن، فكيف فاتهم؟

وقد مضى قول الترمذي إنه حديث غريب، وأخرج ابن عدي في الكامل عن أبي طالب سألت أحمد بن حنبل عن عبد الرحمن بن أبي الموالي قال: عبد الرحمن لا بأس به، قال: كان محبوسا في المطبق حين هزم هؤلاء، يروي حديثا لابن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الاستخارة، ليس يرويه أحد غيره هو منكر، قلت هو منكر؟ قال: نعم ليس يرويه غيره لا بأس به، وأهل المدينة إذا كان حديث غلط يقولون: ابن المنكدر عن جابر، وأهل البصرة يقولون: ثابت، عن أنس، يحيلون عليهما.

وقال ابن عدي: والذي أنكر عليه حديث الاستخارة، وفي (مسائل حرب) ص473: قال أحمد مرة: عندما سئل عن ابن أبي الموال: “يروي حديثًا لم يروه أحد – يعني: حديث الاستخارة- عن جابر، وكان يُضعفه”.

وقال الذهبي في (الميزان) في ترجمة عبد الرحمن: قال أحمد بن حنبل: حديثه في الاستخارة منكر.

وقال الحافظ ابن حجر بعد نقل قول أحمد بن حنبل: “وأهل المدينة إذا كان حديث غلطا يقولون ابن المنكدر عن جابر كما أن أهل البصرة يقولون ثابت عن أنس يحملون عليهما”: وقد استشكل شيخنا (أي الحافظ العراقي) في (شرح الترمذي) هذا الكلام وقال: ما عرفت المراد به فإن ابن المنكدر وثابتا ثقتان متفق عليهما، قلت (القائل الحافظ ابن حجر): يظهر لي أن مرادهم التهكم والنكتة في اختصاص الترجمة للشهرة والكثرة.

الدفاع عن البخاري:

 أما ضعف عبد الرحمن بن أبي الموال فهو ضعف محتمل، وقد وثقه غير واحد، قال أبو طالب عن أحمد بن حنبل لا بأس به، وقال أبو إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: صالح، وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين وأبو عيسى الترمذي والنسائي: ثقة، وقال أبو عبيد الآجري عن أبي داود: ثقة حدثنا عنه سفيان الثوري، وقال أبو زرعة: لا بأس به صدوق، وقال أبو حاتم: لا بأس به وهو أحب الي من أبي معشر، وقال عبد الرحمن بن يوسف بن خراش: صدوق، وذكره ابن حبان في كتاب الثقات وقال يخطئ. (راجع تهذيب الكمال).

قلت: لم يكثر البخاري حديثه، وإنما انتقى بعضا من حديثه عن محمد بن المنكدر وهما مدنيان، وحديث الاستخارة منه، والبخاري إمام الصنعة مجتهد، لا يحكم عليه بقول غيره.

وأما النكارة فقلت: لعل الإمام أحمد عنى بالنكارة الغرابة، والغرابة لا تنافي الصحة كما هو معلوم، وقد روي الحديث عن ابن مسعود وغيره من الصحابة رضي الله عنهم فزالت الغرابة، وقال ابن عدي في الكامل: ولعبد الرحمن بن أبي الموالي أحاديث غير ما ذكرت، وهو مستقيم الحديث، والذي أنكر عليه حديث الاستخارة وقد روى حديث الاستخارة غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه ابن أبي الموالي.

 وقال الدارقطني في (الغرائب والأفراد): غَرِيب من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي الموال عن محمد عَن جَابر، وَهُوَ صَحِيح عَنهُ.

 قلت: فهذا الإمام الجهبذ صححه مع غرابته، وإخراج البخاري له ثلاث مرات في صحيحه يشهد بقوته عنده.

 وقال الحافظ ابن حجر بعد نقل قول ابن عدي هذا: قلت يريد أن للحديث شواهد وهو كما قال مع مشاححة في إطلاقه قال الترمذي بعد أن أخرجه حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموال وهو مدني ثقة روى عنه غير واحد وفي الباب عن ابن مسعود وأبي أيوب. قلت (القائل الحافظ ابن حجر): وجاء أيضا عن أبي سعيد وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر، فحديث ابن مسعود أخرجه الطبراني وصححه الحاكم، وحديث أبي أيوب أخرجه الطبراني وصححه ابن حبان والحاكم، وحديث أبي سعيد وأبي هريرة أخرجهما ابن حبان في صحيحه، وحديث ابن عمر وابن عباس حديث واحد أخرجه الطبراني من طريق إبراهيم بن أبي عبلة عن عطاء عنهما، وليس في شيء منها ذكر الصلاة سوى حديث جابر إلا أن لفظ أبي أيوب اكتم الخطبة وتوضأ فأحسن الوضوء ثم صل ما كتب الله لك الحديث، فالتقييد بركعتين خاص بحديث جابر، وجاء ذكر الاستخارة في حديث سعد رفعه من سعادة ابن آدم استخارته الله، أخرجه أحمد وسنده حسن وأصله عند الترمذي لكن بذكر الرضا والسخط لا بلفظ الاستخارة، ومن حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أمرا قال اللهم خر لي واختر لي وأخرجه الترمذي وسنده ضعيف، وفي حديث أنس رفعه ما خاب من استخار والحديث أخرجه الطبراني في (الصغير) بسند واه جدا.

تأويل الحديث:

 قلت: هذا الحديث يحتاج إلى التأويل في موضعين:

 الأول: قوله في الحديث: “كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن”، فإنه لو كان يعلمهم كما يعلم السورة من القرآن لاشتهرت الاستخارة بين الصحابة رضي الله عنهم ولرويت بأسانيد ثابتة قوية، وقد جاء في التشهد: “كان يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن”، فروي التشهد عن جمع من الصحابة بأسانيد قوية جدا.

 فالذي أراه إن صح الحديث أن معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتنى بتصحيح كلماته عنايته بتصحيح حروف التنزيل، وليس معناه العناية بتعليم الاستخارة نفسها.

 والثاني: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم زاولوا أمورهم من النكاح والطلاق والبيع والشراء والجهاد وما إلى ذلك، ولم يرو عنهم أنهم التجأوا إلى دعاء الاستخارة، فالذي أراه أن الاستخارة في الحديث معناها الاستعانة بالله والتوكل عليه، وهذا موافق للقرآن الكريم، قال تعالى: “فإذا عزمت فتوكل على الله”، والآيات في هذا كثيرة جدا، وكذلك الأحاديث في الاستعانة والتوكل مستفيضة مشهورة، والاستعانة بالله والتوكل عليه سنة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، وطريق الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وذلك دأب الصالحين في كل زمان ومكان، اللهم اجعلنا من المستعينين بك والمتوكلين عليك.

د. محمد أكرم الندوي

عالم ومحدث، من أهل جونفور الواقعة ضمن ولاية أتر برديش الهندية. وباحث في مركز أوكسفورد للدراسات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى