د. وليد عبد الحي يكتب: الـ«بريكس» بين النشوة والفجوة

تمثل الفترة من 2009 /2010 مرحلة تكامل التأسيس للتكتل الدولي العابر للقارات بريكس (3 دول آسيوية هي روسيا والصين والهند ودولة أمريكية لاتينية هي البرازيل ودولة افريقية هي جنوب إفريقيا)، أي أن التكتل لا يندرج في إطار منظور جيوسياسي أو جيواستراتيجي في سلوكه الدولي وان كان لهذه الاعتبارات بعض الأهمية في قبول العضوية كما سنوضح لاحقا.
كما أن التباين في النظم السياسية للدول الأعضاء في التكتل لا يحتاج لعناء لاكتشافه،فمستوى الديمقراطية في الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا متفوق بشكل كبير( بين 6-7 من عشرة نقاط) على مستواه في كل من روسيا والصين( من 2-3 نقاط)، لكن الوزن الأكبر في التأثير داخل الكتلة هو للدول الأقل ديمقراطية، أما معدل الاستقرار السياسي، فلا يشير إلى أية إيجابية في هذا الجانب، فالدول المؤسسة تقع جميعها في نطاق المجموعة السالبة على مقياس الاستقرار السياسي، وكلها تتراوح بين 0.5 بالسالب و 0.7 بالسالب أيضا.
ذلك يعني أننا أمام تكتل متباعد جغرافيا ( وهو ما يجعل تكاليف التجارة البينية عالية ) ومتباينة بشكل واضح في مستوى الديمقراطية فيها، ناهيك عن أنها تقع جميعا في ضمن عدم الاستقرار السياسي الذي تعتمده أكثر نماذج القياس السياسي استنادا إلى نموذج كوفمان.
من جانب آخر، فهذه المجموعة تضم دولتين لهما حق الفيتو في مجلس الأمن، وهناك 3 دول نووية في المجموعة، مع تباين كبير في عدد السكان والمساحة، فعدد سكان الصين أو الهند يساوي 24 ضعف عدد جنوب إفريقيا، ومساحة روسيا تعادل تقريبا مساحة الصين + البرازيل وحوالي خمسة أضعاف مساحة الهند و16 ضعف مساحة جنوب إفريقيا.
أما الفروق الاقتصادية فيكفي ملاحظة أن إجمالي الناتج المحلي الصيني على أساس المعادل الشرائي( PPP) يفوق مجموع بقية دول البريكس الأربع بحوالي تسعة تريليونات دولار، أما التباين الاجتماعي فيكفي الإشارة إلى أن الخلفيات الثقافية والاجتماعية لكل دولة تختلف تماما عن الأخرى ( كاثوليكية، أرثوذكسية، هندوسية، كونفوشية، أو خليط من كل هذا كما هو في جنوب إفريقيا).
في ظل هذه التباينات البنيوية، ما الذي يجمع هذه الدول؟ وما هو مستقبلها؟
يمكن الافتراض بأن ما يجمع هذه الدول مجموعة من الدوافع، لكن هذه الدوافع تتباين في أوزانها من دولة لأخرى على النحو التالي:
1- الرغبة في خلخلة النظام الدولي القائم باتجاه نظام دولي أكثر تعددية وأقل «تغريبا»، وهو ما تتبناه الصين وروسيا أكثر من بقية الأعضاء وإن كانت هذه البقية مستفيدة من ذلك.
2- التحويل التدريجي لإدارة العلاقات الدولية من منظوره الصفري (zero sum-game) إلى منظوره غير الصفري(Non zero sum-game)، وهو ما تتبناه كل دول المجموعة، بل هو ما يفسر بشكل لا لُبس فيه تجاوز كل التناقضات التي أتينا عليها بين دول البريكس لضمان هذا التحول الاستراتيجي القائم على أساس أولوية المصالح المشتركة على المصالح المتناقضة، ومحاصرة المصالح المتناقضة بتوسيع دائرة المصالح المشتركة، وهو ما يعني أن سياسات الحصار الاقتصادي يجب أن تتراجع لحساب المصالح المشتركة على حساب المصالح المتناقضة.
قوة البريكس:
من الواضح أن الدافع المركزي للبريكس هو دافع اقتصادي( خلافا لمنظمة شنغهاي ) لكنه يرخي بظلاله على الدوافع السياسية بالتأكيد، كما أن قوة الاندفاع الاقتصادي لدول البريكس تمنحها ثقة كبيرة في القدرة على إدارة «الاقتصاد الدولي بل والمعولم أيضا»، ويكفي التنبه للمقارنة التالية، ارتفع نصيب دول البريكس (قبل تأسيس البريكس) من إجمالي الناتج المحلي العالمي (ppp) خلال الفترة من 1992 إلى 2010 من 16.45% إلى 27.2%، بينما تراجع نصيب مجموعة السبع خلال نفس الفترة من 45.8 إلى 31.7%، وبعد تأسيس البريكس ارتفع إجمالي الناتج المحلي للمجموعة ليصل حاليا إلى 31.67%، بينما تراجع نصيب مجموعة السبع إلى 30.31%، وهو ما يعني أن استمرار هذا المسار على أساس خطي سيوصل نصيب البريكس (باستخدام تقنية السلاسل الزمنية) عام 2032 إلى ما بين 35.8 الى36.4%( دون حساب الأعضاء الجدد الستة الذين ستسري عضويتهم بداية العام القادم) بينما سيتراجع نصيب دول مجموعة السبع إلى ما بين 24.84 % و 25.6%.
من جانب آخر، يتبين أن معدل النمو في دول البريكس بعد الانضمام يساوي ضعف المعدل قبله وهو ما يعزز مكانة ودلالات الانضمام، ولعله يفسر الهرولة للحاق بعضوية هذا التكتل، وتزايد طلبات الانضمام.
ورغم أن المنظمة لا ميثاق مدون لها، إلا أن بياناتها الختامية تتضمن قواعد العمل فيها، ومن المرجح ان تميل المنظمة إلى وضع نظام أساسي لها، لكن قرار المؤسسة يعمل حاليا من خلال قاعدة «التوافق» (consensus) وليس التصويت بمعناه الحرفي.
الأعضاء الجدد ودلالاتها:
انضم في المؤتمر الأخير هذا الشهر للبريكس 6 دول هي:
أربع دول شرق أوسطية (السعودية وإيران ومصر والإمارات العربية) بينما انضم دولة افريقية هي إثيوبيا و دولة أمريكية لاتينية هي الأرجنتين، ذلك يعني أن الشرق الأوسط حظي بنصيب الأسد في العضوية الجديدة، وهو أمر يعكس نزعة الاستدارة شرقا التي كثيرا ما اشرنا لها منذ سنوات، ناهيك عن البريكس التي لم تكن تضم أي دولة شرق أوسطية منذ 2009، وهو ما يسند نظرية التحرر التدريجي الشرق أوسطي من ثقل النزعات الأمريكية التدخلية في المنطقة، والتي قد تعمل الولايات المتحدة على لجمها من خلال إيجاد آليات لتوسيع نطاق عدم الاستقرار السياسي في المنطقة،وربما تكون منطقة مجلس التعاون الخليجي هي الأكثر جاذبية في هذا المجال لاسيما ان نطاق التغلغل الأمريكي في هذا الإقليم الفرعي يغوي على تنفيذ هذه الإستراتيجية بتكلفة اقل، بل يبدو ان ضم السعودية وإيران والإمارات العربية يضمن للصين تحديدا هدفين هامين هما ضمان أهم دول النفط والغاز في أوبك إلى جانبها، وتعميق الفجوة بينهما مع الولايات المتحدة بخاصة تقاربهما مع إيران بوساطة صينية إلى جانب أن حجم التبادل التجاري بين السعودية والصين يفوق مجموع حجم تبادلها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي معا، مع ضرورة التنبه إلى أن وزير الخارجية السعودي أشار طبقا لتقارير صحفية أن عضوية بلاده ما تزال في دائرة «المناقشات الداخلية».
أما مصر فان الاختناق الاقتصادي الذي تعيشه وأعباء الدولار عليها ديونا وتخفيضا لعملتها ناهيك عن جذور العلاقة مع روسيا والصين تفسر التحاقها بهذه الكتلة الهامة.
أما إثيوبيا والأرجنتين، فالأولى جف ضرع المساعدات الأمريكية لها بعد الاضطرابات في إقليم تيغري، ورغم أنها كانت من الدول الأعلى نموا اقتصاديا في إفريقيا إلا أن الاضطرابات عادت لها في بعض المناطق، لكن تكلفة حرب تيغري فاقت الـ20 مليار دولار، ولعل البريكس تساهم في تضميد الجرح العميق، لكنه يفتح المجال لروسيا والصين لتعميق الفجوة الإثيوبية الأمريكية، أما الأرجنتين، والتي تعد الاقتصاد الثالث في أمريكا اللاتينية، فإنها اعتمدت على البرازيل (العضو المؤسس) بحكم أنها شريكها التجاري الأول وعلى الصين والهند اللتان تتسارع علاقاتهما مع هذه الدولة وكل ذلك لكبح جماح التضخم الذي يضرب الاقتصاد الأرجنتيني في العمق والذي قد يساهم بنك التنمية للبريكس في كبحه.
فإذا أضفنا الدول الجديدة إلى كل ما سبق، فان وزن البريكس في تشكيل الاقتصاد العالمي سيتسيد المنصة على حساب المركز الرأسمالي التقليدي، وقد يصل نصيب البريكس في هذه الحالة إلى حدود 40% من إجمالي الناتج المحلي العالمي..
كعب أخيل في البريكس:
يمكن اعتبار الخلافات السياسية بين دول البريكس هي «كعب أخيل»، ويكفي التأمل في الآتي:
1- الخلافات الصينية الهندية وهي خلافات عميقة ومتنوعة، ناهيك عن عمق العلاقة الهندية مع الدول الغربية.
2- التوتر الكامن بين مصر وإثيوبيا
3- التوجس المتبادل بين دول الخليج وإيران
4- مدى انعكاس المواقف من الحرب الروسية الأوكرانية على درجات التعاون بين الأعضاء
5- سياسات وحدود استخدام العملات المحلية في المعاملات التجارية بين الأعضاء
معايير قبول الأعضاء الجدد:
يمكن تحديد معايير القبول للعضوية الجديدة في معيارين مركزيين هما: التمثيل القاري، اي ان يكون هناك توازنا في تمثيل القارات، فمثلا إفريقيا (حوالي 1.5 مليار نسمة)سيكون لها 3 دول هي جنوب إفريقيا وإثيوبيا ومصر، وأمريكا اللاتينية (اقل من نصف مليار قليلا) دولتان هما البرازيل والأرجنتين، وآسيا (اقل من خمسة مليار قليلا) تمثلها ست دول هي الهند والصين وروسيا وإيران والسعودية والإمارات.
أما المعيار الثاني فهو حجم اقتصاد الدولة المتقدمة للعضوية،لكن هذا المعيار لا يبدو انه هو الأساس، فإجمالي الناتج المحلي الإثيوبي (المعادل الشرائي) هو حوالي 393 مليار بينما الجزائر 621 مليار وكلاهما إفريقيتان (ويبدو أن قبول مصر والإمارات والسعودية كدول عربية اثر على قبول الجزائر في الوقت الحالي على الأقل) كما أن حجم الاقتصاد الاندونيسي يساوي حوالي خمسة أضعاف الاقتصاد الإماراتي، وهو ما يعني أن المعيار الجغرافي أكثر اتساقا من معايير العضوية على أساس حجم الاقتصاد.
من المؤكد أن تطور التكتل سيدفع نحو تحديد دقيق لشروط العضوية، وان زيادة الأعضاء ستلزم التكتل على ذلك، وهو ما يعني ان السعي لدول كالجزائر أو اندونيسيا أو العشرين دولة الأخرى التي تقدمت للعضوية ستواصل مساعيها، وهو ما سيعزز الضغوط على إدارة التكتل لوضع أسس القبول بالأعضاء الجدد، لان عدم وضع معايير قد يمثل موضع خلاف بين الأعضاء في المستقبل.
ونعتقد أن البريكس ستواجه معضلة فصل ما هو اقتصادي عن ما هو سياسي، وهو أمر معقد للغاية في ظل «التعولم الجاري» والذي يعلن الرئيس الصيني أن بلاده هي التي ستقوده، وقد يكون ذلك موضع تصويت في مثل هذه القضايا لان التوافق في صنع القرار هنا معقد جدا، وهو ما يعني أن التكتل ملزم بأن يتخلى عن قاعدة التوافق مستقبلا.
إن القوى المركزية في التكتل منغمسة في سياسات دولية تجعل الفصل بين السياسي والاقتصادي بل والعسكري أمرًا ليس باليسر المتخيل، وهو ما قد يفتح المجال لخلافات داخل البريكس بل والشروع في انسحاب منها لاحقا..
إن إيقاع التغير السريع في كل جوانب الحياة الدولية سيفرض على كل المنظمات والتكتلات الدولية المراجعة الدائمة والمتسارعة لقواعد عملها للتمكن من تنفيذ سياسات التكيف مع هذا الإيقاع المتسارع وإلا ستنضم لطوابير الديناصورات السياسية…
ربما.