مقالات

د. أنور الخضري يكتب: شهادة مع وقف التنفيذ!

في بعاده الأول كان يستمع إلى سورة يوسف وهو يسافر إلى المجهول في ليل حالك امتد عمرا قبل أن تشرق شمسه، وكانت عيناه تفيضان دمعا لا ينقطع، وله مع بكاء الليالي عهد قديم، لكن أذنيه كانتا تصغيان للآيات بتدبر عميق وكأنها أنزلت عليه وله.

كان كل الكون حوله صامتا بما في ذلك السائق الذي أيس من لفت انتباهه والحديث معه وقد سمع نشيج بكائه الذي لا ينفك يتردد في جوانحه، فآثر أن يولي وجهه للطريق الذي انعدمت فيه الأضواء عدا نجوم تتلألأ في أفق بعيد.

انتهت قصة يوسف بتحقق حلمه، غير أن قصته ما زالت في منتصفها، أما البدايات التي يدركها فكانت في أكناف قرية صغيرة، تربض على مرتفع من الأرض تحيط به الأودية، وفي أحضان جدة مثلت له رحم الحياة الثاني. فعاش مع أخويه في منزل شعبي متواضع تحفه الطبيعة وتسكنه الدواجن والقطط وكلب حراسة.

عاش مدللا ومحبوبا، يتسم بذكاء فطري وروح حالمة، معشوقا من قريناته في الطفولة، شغوفا باللعب، وغافلا عن مستور القدر.

دخل المدرسة وتدرج في فصولها بنجاح قل نظيره في تلك البيئة النائية، وكان ترتيبه ضمن الأوائل، وربما تأخر عن الترتيب الأول لاعتباره «أجنبيا» خلافا لبقية الطلاب أبناء الوطن، الوطن الذي تربطه به رحم الأمومة ووصمة الميلاد ونشأة الطفولة.

عاش في بيئة نائية غير أن قراءته النهمة للصحف والمجلات التي كان يسلي بها وقته فتحت له نوافذ للعالم ما كان له ليبلغها بدونها، فقد كان عالم الثمانينيات في تلك القرية عالما مغلقا لا تتوفر فيه وسائل الإعلام ولا التواصل.

بعد نجاحه في الثانوية العامة بنسبة ٩٧% من القسم العلمي رغب في إتمام مساره العلمي، ولأنه كان “أجنبيا” كان لزاما عليه أن يطوف جامعات البلاد جميعا، من أقصاها إلى أقصاها، ليقدم ملف التسجيل وينتظر الرد. وكانت جامعة الملك فهد (أو البترول والمعادن) الجامعة التي قبلته، بعد مضي فصل كامل، وتجاوزه لاختبار شامل ودقيق لم يألفه من قبل.

في تلك الفترة، ما بين الثانوية والجامعة، بدأ يتحول في حياته من دائرة الغفلة إلى دائرة التدين، لم يكن شابا مراهقا متورطا في ذنوب كبيرة، لكنه عاش الغفلة واللهو. وعندما سكن في سكن الطلاب بالجامعة وجد خلية من النحل الصالح، فانخرط في مناشط دعوية وتربوية ودروس علمية، واستماع للخطب والمحاضرات.

كانت تلك السنة سنة المبشرات في الجهاد الأفغاني الذي ساندته الدول العربية، وفتحت إليه المجال ليتدفق الشباب إلى ميادين القتال هناك. وكانت المنابر تزمجر وتهتز وتتغنى بأخبار الجهاد ومبشرات النصر وآيات الكرامة.

أخذ وعيه ينحو باتجاه الجهاد طلبا للشهادة، لا لشيء سوى لتلك النظرة الجميلة التي تشكلت لديه عن هذه المنزلة الرفيعة عند الله تعالى، وكانت روحه ترفرف إليها مع كل آية أو حديث أو موعظة بشأنها. وهنا عزم على أن يتحول إلى أفغانستان وأن يدرك غبار المعارك ونفس العزة وبطولة الرجال، وأخذ يعمل لترتيب الخروج والذهاب إلى هناك.

أصبح لديه “حلم” يسكن قلبه ويشغل باله ويلهج به دعاء.

عرف إخوة له من السابقين في الدعوة والتربية بعزمه، فسعوا إلى إرشاده بالحوار والإقناع للحياد عن هذه الرغبة الجامحة لديه، ولأنه كان منفتحا خاض جدالا طويلا غلبته فيه حجة المنطق، غير أنه شعر بهزيمة مريرة لأن ما ظهر له صوابه كان خلاف ما تميل إليه نفسه.

قال له أحدهم وهو يحاوره: هل أنت صادق في طلب الشهادة؟

قال: نعم.

قال: إذا كنت صادقا فأبشر فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن من طلب الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، والأمة بحاجة لك فذكاءك مكسب لأمتك وللمجاهدين إذا وظفته لذلك.

أسرها في نفسها، وسار في ركب الدراسة مجدا، غير أن حدثا عظيما زلزل منطقة الخليج أجبره على مغادرة الجامعة والبلد التي أنجبته واحتضنته وغذته، ليفارقها لأول مرة مكرها، وليودع إخوته وجدته وأصحابه مرغما.

في ثاني ليالي رمضان كان سفره الأول إلى موطن والده الأصلي، والذي ما كان يعرف عنه شيئا سوى قليل من الأغاني التي كانت تروج، وهوية لم يلق لها بالا سوى للاستخدام الرسمي.

وهناك، انكشفت له الحياة بمرها وشوكها ووحشتها، وكان لزاما عليه أن يكون عصاميا كما كان يوسف، وكأن الله تعالى ألهمه أن يستمع لهذه السورة الثرية وهو يلقى في جب الغيب المجهول.

ولأن تكاليف الحياة ترهق الفرد فقد كابد واجتهد، ومضت سني حياته ما بين عجاف وسمان وخضر ويابسات. كانت عادته الوحيدة التي لم تفارقه بكاءه الصامت إذا أوى إلى فراشه، حتى تبتل مخدته من الدموع، وتغفو عينه من الإعياء، بعد أن يكون خاطره قد جال بين الذكريات والمخاوف والمناجاة التي تنسكب عليه وكأنه في غار حراء ليس حوله أحد إلا الأحد الصمد.

اليوم تحققت له الأحلام الاعتيادية، زوجة وأبناء ووظيفة ومنزل، لكن شيئا كان على رأس القائمة لا يزال يضيء كنجم ساطع، حلمه في الشهادة، ولو بعد أكثر من خمسين عاما. كيف؟ لا يعلم، لكن أجراس هذا الحلم تدق في وجدانه كما تدق ساعة “بيج بين” في نواحي لندن بين فينة وأخرى.

واليوم، يرى أبطال غزة فيردد يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما، فلا زالت الشهادة التي يحلم بها مع وقف التنفيذ!

ولأن الأحرار شركاء في الحلم فهو يقف معهم، وإلى جانبهم، وسيدعو الله إذا تخلف عن موكبهم في الدنيا ألا يتخلف عن ركب وفادتهم في الآخرة.

بس كدا يا مؤمن..

د. أنور الخضري

مدير مركز الجزيرة للدراسات العربية بصنعاء - اليمن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights