د. محمد أكرم الندوي يكتب: نَسْخ التلاوة في القرآن الكريم

ورد إلى سؤال من قبل الدكتور عمر طه:
السلام عليكم شيخنا، كيف الحال؟ أدعو أنكم بخير، عمر طه معك – أحد طلابك وأحد المدرسين في معهد السلام.
عندي سؤال عن حديث في صحيح مسلم، لو استطعت التوضيح بارك الله فيك شيخ، الحديث يدل على نسخ تلاوة القران ولكني فهمت من دروسك أن نسخ تلاوة القرآن أمر غير صحيح، فكيف نفهم الحديث؟
جزاك الله خيرا شيخنا الكريم.
الجواب:
قلت: قد شرحت معنى النسخ في القرآن في مقالين لي، أرجو أن تراجعهما، وفيما يلي الجواب عن هذا الحديث خاصة، أخرجه الإمام في باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثا، كتاب الزكاة من صحيحه شاهدا غير معتمد إياه، وأثبت فيما يلي أحاديث الباب مرتبة:
حدثنا يحيى بن يحيى وسعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد قال يحيى أخبرنا وقال الآخران حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن أنس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب.
وحدثنا ابن المثنى وابن بشار قال ابن المثنى حدثنا محمد بن جعفر أخبرنا شعبة قال سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فلا أدري أشيء أنزل أم شيء كان يقوله بمثل حديث أبي عوانة.
وحدثني حرملة بن يحيى أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لو كان لابن آدم واد من ذهب أحب أن له واديا آخر ولن يملأ فاه إلا التراب والله يتوب على من تاب.
وحدثني زهير بن حرب وهارون بن عبد الله قالا حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج قال سمعت عطاء يقول سمعت ابن عباس يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لو أن لابن آدم ملء واد مالا لأحب أن يكون إليه مثله ولا يملأ نفس ابن آدم إلا التراب والله يتوب على من تاب.
قال ابن عباس فلا أدري أمن القرآن هو أم لا وفي رواية زهير قال فلا أدري أمن القرآن لم يذكر ابن عباس.
شاهد:
حدثني سويد بن سعيد، حدثنا علي بن مسهر، عن داود، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن أبيه، قال: بعث أبو موسى الأشعري إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاث مائة رجل قد قرءوا القرآن، فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاتلوه، ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها، غير أني قد حفظت منها: “لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب”، وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها، غير أني حفظت منها: “يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون”، فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة.
الكلام على الأحاديث:
اعتمد مسلم فيه حديث أنس وابن عباس، قدم حديث أنس لانتشاره، رواه عنه قتادة والزهري، وقدم قتادة لانتشار حديثه، رواه عنه أبو عوانة وشعبة، وقدم حديث أبي عوانة لعلوه، وليس في حديث أبي عوانة ذكر أن تلك الكلمات من القرآن، ووافقه الزهري على عدم الذكر، وفي حديث شعبة: فلا أدري أشيء أنزل أم شيء كان يقوله، وقوله “أنزل” ليس صريحا في كونه من القرآن، ثم إن شعبة لم يجزم بذلك، بل قال: “فلا أدري”، وبمثل هذا لا يثبت شيء في القرآن.
وفي حديث ابن عباس: “فلا أدري أمن القرآن هو أم لا”، ثم وقع الشك من الرواة أهو من قول ابن عباس أم من بعده، وهذا أيضًا ليس فيه إلا احتمال، ولا يثبت به القرآن.
وأخرج حديث أبي موسى شاهدا، ولم يعتمده، وهو الذي جاء فيه ذكر مسألة نسخ التلاوة.
وحديث أبي موسى ليس على شرط الصحيح، لم يخرجه البخاري لأنه من حديث داود بن أبي هند عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي، وليسا على شرطه.
وداود فعلى شرط مسلم، ولكن أبا حرب بن أبي الأسود ليس على شرطه، ولم يخرج له مسلم إلا هذا الحديث الواحد، أخرجه شاهدا.
إذا كان مثل هذا الحديث لا يصلح أن يعتمد في حكم من فروع الدين وجزئياته، فكيف يصح أن يعتمد في إثبات شيء من القرآن، والقرآن كله محكم، تلقته الأمة بالقبول، وتلك الكلمات تأبى أن تكون من الكتاب المنزل بلفظه ومعناه من عند رب العالمين.
والكلام في مسألة منسوخ التلاوة يطول، وسأتناوله بشيء من التفصيل في مقال آخر إن شاء الله.