د. سلمان الدايه يكتب: أيّها السّاسة والقادة.. لا تنزع الرّحمة إلّا من شقيّ (1-2)

الحمد للّه، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أمّا بعد:
إنّ ما يحدث في قطاع غزّة من تدمير لكلّ الكوائن -من عدوّ جبّار مجرّد عن الرّحمة-يفوق الخيال؛ شابت منه نفوس الصّغار، وهرم منه طموح الشّباب، وقضى منه الكبار، ومازالت عزيمة بني قومي من السّاسة والقادة وتصريحاتهم المذعرة لعدوّهم تشي بحالة الظّفر والانتصار؛ ولذا تراهم ينكرون على من يعلن وجعه ورغبته في الحياة، وربّما قذفوه بالخيانة؛ لتجاهله مظاهر الانتصار الحاضرة في كلّ ساح بزعمهم، وربّما زادت مخالفته فساغ أن يعاقب بإعطاب ركبتيه بالرّصاص في ظروف لا يناسب في مثلها تنفيذ العقوبات؛ لغياب مؤسّسات القضاء عن عملها، وعلى فرض قيامها؛ فإنّه لا يصار إلى ضرب الرّكبتين بالرّصاص؛ فإنّه من المثلة! وقد نهى الشّارع عنها في الكافر؛ فكيف بها في المسلم، وقد فرض الإحسان مع كلّ ذات كبد رطبة؛ فعن شدّاد بن أوس رضي الله عنه، قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ)، والإنسان أولى بالإحسان من كلّ مخلوق حيّ.
وبعد هذا التّقديم أقول مذكّراً السّاسة والقادة والعلماء:
إنّ لله تعالى على عباده حقّين:
أحدهما: إفراده بالعبادة؛ وقد دلّت عليه نصوص الوحي؛ منها: قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الانبياء: 25]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36].
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جُزْءِ حَدِيثِهِ: (حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدوُهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئَاً).
ورهّب الشّارع الحكيم من الجرأة على هذا الحقّ؛ بقوله سبحانه: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [المائدة: 72]، وَبِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ [الحج: 31].
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: (الشِّرْكُ بِاللَّهِ،…).
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ،…).
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: (أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ).
والثّاني: حفظ حقّ العامّة في الدّين والنّفس والنّسل والعقل والمال؛ ولك أن تقول في مناحي حياتهم كلّها.. الدّينيّة والأمنيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والصّحّيّة والتّعليميّة وغيرها، يدلّ عليه ما يأتي:
أَوَّلاً: قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، أي: وما أرسلناك إلّا رحمةً للنّاس بوحي متلوّ وغير متلوّ، فيهما قوام مصالح العالمين على تمام وكمال، يؤيّده قوله تعالى: ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ المعروف: اسم جنس دخلت عليه (أل) الاستغراق؛ فشمل كلّ ما تسكن به النّفس وترتاح له وتطمئن به من العبادات، وقويم العادات، وجميل الأخلاق ممّا جاءت به الشّريعة، واستحسنته العقول الواعية الدّرّاكة، والطّباع السّويّة السّليمة.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ المنكر كمثل المعروف في العموم المستغرق لكلّ ما أنكرته الشّريعة، واستقبحته العقول الواعية، والطّباع السّليمة.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ﴾ أي: ويحلّ لأمّته كلّ طيّب نافع من المطعم والمشرب والملبس والمنكح والمركب والمسكن.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ أي: ويحرّم عليهم كلّ خبيث ونجس وما يلحق بهما مما يضرّ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ﴾ الإصر: حقيقة في الثّقل -بكسر الثّاء-الحسيّ بحيث يصعب معه التّحرّك، والمراد به -هنا-: التّكاليف الشّاقّة المحرجة عباديّةً أو عاديّةً، والأغلال: جمع غلّ-بضمّ الغين-وهو إطار من حديد يجعل في رقبة الأسير والجاني، ويمسك بسير من جلد، أو سلسلة من حديد بيد الموكّل بحراسة الأسير؛ قال تعالى: ﴿إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ﴾ [غَافِر: 71]، ويستعار الغلّ للتّكليف والعمل الّذي يؤلم ولا يطاق.
فهذه رسالة النّبيّ صلى الله عليه وسلم للبشريّة؛ فقد جاءهم بالحنيفيّة السّمحة المتسمة باليسر والسّهولة، المانعة من كلّ مشقّ محرج، وقد أفصح عن ذلك الوحي؛ قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286].
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي جُزْءِ حَدِيثِهِ: (فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (اكْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ).
ثَانِياً: عَنِ ابْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ).
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ رضي الله عنه: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَضَعُ اللهُ رَحْمَتَهُ إِلَّا عَلَى رَحِيمٍ) قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَكُلُّنَا رَحِيمٌ. قَالَ: (لَيْسَ الَّذِي يَرْحَمُ نَفْسَهُ خَاصَّةً، وَلَكِنِ الَّذِي يَرْحَمُ النَّاسَ عَامَّةً).
وعَنِ الْحَسَنِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا رَحِيمٌ)، قَالُوا: كُلُّنَا رُحَمَاءُ، قَالَ: (لَيْسَ بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ خُوَيِّصَتَهُ حَتَّى يَرْحَمَ النَّاسَ).
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي حَبِيبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (خَابَ عَبْدٌ وَخَسِرَ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ رَحْمَةً لِلْبَشَرِ).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ).
من فوائد الأحاديث: أنّ أكمل الرّحمة حفظ حقّ العامّة، والنّصح لهم، وإعانتهم، وتفريج كربتهم، وإقالة عثرتهم، ودفع عسرتهم وما يعنّتهم، ويحرّجهم؛ قال ابن تيميّة رحمه الله” “الدّين كلّه يدور على الإخلاص للحقّ، ورحمة الخلق”، وقال رحمه الله: “من أحبّ أن يلحق بدرجة الأبرار ويتشبّه بالأخيار؛ فلينو كلّ يوم تطلع فيه الشّمس نفع الخلق”.
وقال الفخر الرّازيّ رحمه الله: “مجامع الطّاعات: تعظيم أمر الله، والشّفقة على خلق اللّه”.
وقال الطّاهر ابن عاشور رحمه الله: «علّة الإرسال -أي: إرسال الرّسل-في الحقيقة هي إرادة الصّلاح ورحمة الخلق».
وقال ابن بطّال رحمه الله: “في هذه الأحاديث الحضّ على استعمال الرّحمة للخلق كلّهم، كافرهم ومؤمنهم، ولجميع البهائم، والرّفق بها، وأنّ ذلك ممّا يغفر الله به الذّنوب، ويكفّر به الخطايا، فينبغي لكلّ مؤمن عاقل أن يرغب في الأخذ بحظّه من الرّحمة، ويستعملها في أبناء جنسه، وفي كلّ حيوان، فلم يخلقه الله عبثًا، وكلّ أحد مسؤول عمّا استرعيه وملكه من إنسان أو بهيمة لا تقدر على النّطق، وتبيين ما بها من الضّرّ، وكذلك ينبغي أن يرحم كلّ بهيمة، وإن كانت في غير ملكه؛ ألا ترى أنّ الذّي سقى الكلب الذّى وجده بالفلاة، لم يكن له ملكاً، فغفر الله له”.
وشدّد الوعيد على من يعتدي على حقّ العامّة ولو بالتّسبّب؛ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 33].
من فوائد الآية: تعظيم حقّ العامّة، ينبيك عنه: أنّ الله تعالى سمّى الاعتداء عليه محاربةً لله ولرسوله، وقد تفاوتت العقوبة في الآية؛ لتفاوت الجريمة.
وقد أمر الوحي باتّقاء ما يؤذي النّاس ولو في مشامّهم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ).
وقد سمّي لعّاناً؛ تسميةً للشّيء باسم مسبّبه؛ وهو إيذاء المارّة والجلوس في أماكن الظّل بخبيث رائحة الخراء، فكيف بمن يتسبّب بإيذائهم في أنفسهم وأعراضهم وأولادهم وبيوتهم وأموالهم وجميع مصالحهم بإذعار عدوّهم الجبّار الصّلف.
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ؛ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ،…).
دعوة مخوفة دعا بها النّبيّ صلى الله عليه وسلم على ولاة الأمر الذّين يشقّون على رعيّتهم، ويتسبّبون لهم بما يعنّتهم أن يأخذهم الله بمثل ما كان منهم في رعيّتهم من المشقّة والحرج، في النّفس بالمرض والقلق الدّائم، أو في البدن بسيّء السّقم، أو في الأهل والولد، أو في سوء الخاتمة، نسأل الله العافية.
وَعَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ. فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ).
قال النّوويّ رحمه الله: “الحطمة: هو العنيف في رعيّته، لا يرفق بها في سوقها ومرعاها؛ بل يحطمها في ذلك وفي سقيها وغيره، ويزحم بعضها ببعض بحيث يؤذيها ويحطمها”.
والمراد منه في الحديث وليّ الأمر أو ذو المسئولية العامّة الّذي يحرج رعيّته ويظلمهم، ويكلّفهم ما يعنّتهم، ويفتنهم في دينهم وأنفسهم، ولا يجهد في دفع ما يضرّهم، فهو شرّ الرّعاة وأشقاهم عند الله.
وعن جرير بن عبد اللّه رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ).
الحديث خبر عن سنّة الله في الولاة القساة؛ أنّ الله يقتصّ منهم بمثل صنيعهم، فكما لم يرحموا رعيّتهم ولم يدفعوا عنهم ما يفتنهم، ولم ينصحوا لهم، ولم يحيطوهم بما ينفعهم، يقاصصهم الله عزّ وجلّ بعقوبة من جنس عملهم فيحرمهم رحمته في الدّنيا والآخرة.
وَعَنْ خَوْلَةَ الَأَنْصَارِيَّةِ رضي الله عنها، قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ رِجَالَاً يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
قَوْلُهُ: (يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي: يتصرّفون بمال المسلمين بالباطل، وقد سمّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم مال المسلمين -في الحديث-مال الله؛ لتهابه الأنفس ولا تخوض فيه بالحرام، وهذا يجري على مصالح دينهم وأنفسهم وأولادهم وأعراضهم بالأولى.
فالقائد الّذي يريد هناءة الدّنيا والآخرة هو الّذي يتحرّى لرعيّته كلّ نافع مليح، ويدرأ عنها كلّ ضارّ قبيح، ويرفق بهم، ولا يبتليهم بما يفتنهم، فمن وفّى؛ فله الأجر المريح، ومن قصّر؛ فله المآل الفضيح؛ قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [المائدة: 33].
فإن قيل: إنّ ما يحدث في قطاع غزّة من تدمير وتقتيل وتشويه وتشريد معزوم على فعله من عدوّنا شئنا أم أبينا، فعاجلناه بحدث السّابع من أكتوبر؟
فالجواب: لا يسوغ لكم هذا، إذ كان عدوّنا مشغولاً عنّا بقدر ما، وقد علمتم من طريقته إبّان السّنوات الخوالي أنّه لا يعمل فينا طائراته وصواريخه الموجّهة، ولا يجوس ديارنا بدبّاباته إلّا بفعل من أحزاب المقاومة يذعره، لا لنزاهة فيه؛ فهو مجرّد عن ذلك، وهو أشدّ النّاس عداوةً للّذين آمنوا.
ولا يحسن أن يطلب المؤمن لنفسه و أهله الابتلاء، ولا أن يتسبّب به؛ بل ولا يتمنّاه بقلبه، ويدعو لنفسه وأهله بدوام العافية؛ لما علم من سنّة الله القدريّة الكونيّة أنّ الابتلاء إذا ألقي على المؤمن أعين عليه، وإذا طلبه وكل إليه، ويتأكّد قبح التّسبيب بالابتلاء والتّحرّش بالأعداء في حال غياب القوّة المؤهّلة لدفعهم بحديث عبد اللّه بن أبي أوفى رضي الله عنه، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ)، والتّمنّي عمل قلب، والعدوّ هو من يناصبك العداء، ويحرص على إلحاق الضّرّ بك.
والمعنى: لا تتمنّ بقلبك لقاء عدوّك الحربيّ، وسل الله دوام العافية؛ فاقتضى بمفهومه الموافق النّهي عن طلب لقائه بالفعل.
فإن قيل: هذا مصروف إلى جهاد الطّلب، ولا كذلك جهاد الدّفع الّذي يلزم فيه دفع العدوّ ممّن يطيقه رجلاً كان أو امرأةً، حرّاً أو عبداً، صغيراً أو كبيراً، مديناً أو دائناً أو غيرهم، ولا يلزم استئذان أحد، ولا ينفكّ وجوب الدّفع عن أحد ولو أدّى إلى الإحاطة بالنّاس أجمعين، وقد جرت بهذا أقلام العلماء منهم ابن تيميّة رحمه الله قال: “وهذا يجب بحسب الإمكان على كلّ أحد بنفسه وماله مع القلّة والكثرة، والمشي والرّكوب”، وقال رحمه الله: ”وأمّا قتال الدّفع فهو أشدّ أنواع دفع الصّائل عن الحرمة والدّين فواجب إجماعًا، فالعدوّ الصّائل الّذي يفسد الدّين والدّنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه فلا يشترط له شرط؛ بل يدفع بحسب الإمكان”، وقال رحمه الله: «وقتال الدّفع مثل أن يكون العدوّ كثيرًا لا طاقة للمسلمين به، لكن يخاف إن انصرفوا عن عدوّهم عطف العدوّ على من يخلّفون من المسلمين؛ فهنا قد صرّح أصحابنا بأنّه يجب أن يبذلوا مهجهم ومهج من يخاف عليهم في الدّفع حتّى يسلموا، ونظيرها أن يهجم العدوّ على بلاد المسلمين وتكون المقاتلة أقلّ من النّصف، فإن انصرفوا استولوا على الحريم؛ فهذا وأمثاله قتال دفع لا قتال طلب، لا يجوز الانصراف فيه بحال».
فالجواب: إنّ من النّصفة وأمانة العزو أن يحاط بعلم الفقيه في الموضوع الواحد، وتجمع أقواله فيه، ثمّ يتأمّل كلّ قول ضمن سياقه الّذي ورد فيه، فقد يكون للفقيه أقوال تبدو متعاكسةً، وقد تكون له مؤلّفات متقدّمة، وأخرى متأخّرة، فإذا راعيت هذا السّبيل؛ فتح عليك بمعرفة ما انتهى إليه من قول، وقد يفتح عليك بتوجيه أقواله إلى مذهب تستدفع به ما يظنّ به أنّه من التّناقض، فإنّ ابن تيميّة رحمه الله الّذي قال ما قدّمنا، فقد قال أيضاً: “فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف، أو في وقت هو فيه مستضعف؛ فليعمل بآية الصّبر والصّفح عمّن يؤذي الله ورسوله من الّذين أوتوا الكتاب والمشركين”.
وقال رحمه الله: “فلا رأي أعظم ذمًّا من رأي أريق به دم ألوف مؤلّفة من المسلمين، ولم يحصل بقتلهم مصلحة للمسلمين، لا في دينهم ولا في دنياهم؛ بل نقص الخير عمّا كان، وزاد الشّرّ على ما كان”.
فالتّوجيه عندي أنّ كلام الإمام رحمه الله المتقدّم مصروف إلى حال عزم العدوّ على استئصال المسلمين، وتعذّرّ عليهم النّجاة بتخندق أو تحصّن أو تحرّف أو مال، فكانوا -والحالة هذه- أمام خيارين أن يستسلموا لعدوّهم فيذبحوا كالنّعاج، أو يدفعوه بالمتاح ولو بالنّعال والثّياب حتّى الشّهادة؛ فلزمهم الثّاني دون الأوّل اتّفاقاً.