د. وليد عبد الحي يكتب: غزة والجولة الجديدة

بشكل مباشر لماذا انفجر الوضع من جديد في غزة؟
لم تهدأ غزة أصلا، ولو ان وتيرة المواجهة تتذبذب، والآن عاد القصف وبشكل جنوني، فلماذا ذلك؟
أولا: محاولة تحقيق التهجير في قطاع غزة كبداية، وستليها الضفة الغربية بعد حين، وربما في فترة لاحقة عرب 1948، فالجناح اليميني الصهيوني المسنود من المسيحية الصهيونية في العالم وبخاصة أمريكا، وبعض قوى الوسط في القوى السياسية الإسرائيلية يعتقدون ان من غير الممكن ولا المنطقي إقامة دولة يهودية يكون أكثر من نصفها من غير اليهود (7.4 مليون فلسطيني مقابل 7.1 مليون يهودي)، وفي ظل التشرذم العربي والعداء العربي الرسمي للمقاومة الفلسطينية المسلحة ،فان الفرصة سانحة للخطوة الأولى، ونظرا للاعتذار العربي الرسمي عن قبول التهجير فان الحل هو تنفيذ الخطة بالقوة، وفي التقدير الإسرائيلي أن العرب لن يفعلوا سوى فتح ترسانة الشجب، وقد يكون بأشد العبارات.. لا أكثر، ولن يجرؤ أحد منهم على قطع العلاقات مع إسرائيل، بل قد يعتقد بعض العرب أن التهجير يجعلهم أكثر انطلاقا للمشاركة في «ريفيرا ترامب» المنشود.
إن الهدف من الحملة الجديدة هي جعل خطة التهجير الطوعي والقسري قيد التنفيذ، والرهان اليميني الصهيوني أن العرب سيقبلون، فهم يرفضون دائما ثم يقبلون دائما.
ثانيا: اطمئنان إسرائيل إلى أن العرب -المحتمل معارضتهم- لم يكونوا في حالة تفكك وخوار كما هو الحال حاليا، فمن تمزق سوري واشتباكات مع لبنان، إلى فوضى اجتماعية وخوار اقتصادي، وحكومة سورية تلهث وراء رفع العقوبات وإلغاء قيادتها من قوائم الإرهاب، وستدفع أي ثمن مطلوب لتحقيق ذلك، ومحور المقاومة أصبح أقرب للموت السريري، والعراق لا يستطيع اتخاذ أي قرار إلا بموافقة أمريكية، ويكفي التوقف عند استئذان العراق للولايات المتحدة للحصول على الكهرباء من إيران، وهو ما رفضته أمريكا، ناهيك عن تغلغل رجال «بريمر» في أوصال الجسد السياسي العراقي، وتردد التيار الصدري في أي مواجهة مع إسرائيل، والسودان يحترق، والمغرب العربي «الرسمي» شبه منصرف عن الموضوع، وليبيا في حالة فراغ سلطوي وانقسام سينفجر قريبا، والباقي غارق في ديونه (الأردن ومصر) أو مجونه (مدن الملح).
ثالثا: الازمة الداخلية الإسرائيلية:
لم تعرف الحكومة الإسرائيلية اضطرابا داخليا في إدارة شؤونها كما تعرفه حكومة نيتنياهو، فإقالته لرئيس الأركان تلاها اقالة لرئيس الشاباك (الأمن الداخلي) ثم صدامه الحاد مع المحكمة العليا في أكثر من موقع، ثم التسريبات حول الرشاوي التي تلقاها بعض العاملين في مكتبه -ومنهم ناطقه الرسمي- من قطر، ناهيك عن احتقان الشارع حول قضية الاسرى لدى المقاومة، وضغوط المعارضة.
ولعل المواجهة بين سلطته التنفيذية والسلطة القضائية بخاصة التعيينات في المحكمة العليا تمثل احدى أبرز مشاكله..
ويبدو أن تأجيج الوضع في غزة يساهم في امتصاص الاحتقان الداخلي في المؤسسة الحاكمة، ويوجه الاهتمام الى موضوعات خارجية الى حين القدرة على التكيف مع الاحتقان الداخلي. ولا شك ان الصدام بين السلطة التنفيذية والقضائية يشكل نقطة ضعف واضحة.
وثمة جانب آخر له علاقة بالمقاومة، فعمليات الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين بالطريقة التي مارستها المقاومة عمقت الشرخ واهتزت الثقة في جدوى العمليات العسكرية الإسرائيلية بخاصة بعد التقارير الإعلامية الإسرائيلية عن استعادة المقاومة لتنظيم صفوفها والتحاق اعداد جديدة تعوض خسائرها في الميدان، وقد ترك ذلك مزيدا من احباط الشارع الإسرائيلي، فسعى نيتنياهو لاستعادة بعض الثقة.
رابعا: يبدو ان المواجهة اليمنية الامريكية في البحر الأحمر شكلت غطاء للعملية الإسرائيلية في غزة، وبدا الامر كأن الولايات المتحدة بتصريحات رئيسها تعزز هذا الغطاء، وهو ما يعني تعميق التنسيق الى درجة اعلى، فوجود الولايات المتحدة في المواجهة الى جانب إسرائيل سيلجم الكثير ممن قد «تراودهم» فكرة نقد العملية الإسرائيلية الامريكية.
خامسا: من الواضح ان الموقف الأوروبي أكثر انشغالا بالقضية الأوكرانية، وهي فرصة يقتنصها نيتنياهو، ففي الكتلة الغربية تزايد النقد الأوروبي- في حدود معينة- لإسرائيل، لذا فان انصراف أوروبا بجهودها العسكرية والدبلوماسية لقضية أوكرانيا يضيف غواية جديدة للذهاب باتجاه تسعير المعركة الإسرائيلية في غزة.
اعود لأكرر ان المشروع الاستراتيجي لإسرائيل وبخاصة اليمين الحاكم حاليا ومعه قوى سياسية إسرائيلية خارج الحكومة هو «التهجير»، ورغم الرفض العربي «اللفظي»، فان عبارة ترامب عندما قال «They will do it» توحي لنيتنياهو بأن لا يتراجع، فالظروف ناضجة.. والتسريبات حول التواصل الأمريكي مع السودان والصومال (وربما مع غيرهم) بخصوص التهجير يعزز ذلك…
ذلك يعني ان صفحة جديدة في القضية الفلسطينية قد تم فتحها، فمن احتلال بعض الأرض الفلسطينية (1948) إلى مرحلة احتلال كل فلسطين (1967)، الى مرحلة الاعتراف بالاحتلال والتطبيع معه (1979- الاتفاق الابراهيمي عام 2020) الى المرحلة الحالية وهي «تفريغ فلسطين من أهلها»، وعندها يكتمل مشروع إقامة الدولة اليهودية التي ينادي بها نيتنياهو ويتم دفن مشروع الدولتين ومشروع الدولة الواحدة..
ربما.