جمال سلطان يكتب: أزمة التيار السلفي في مصر

في بداية السبعينات الميلادية الماضية، وعقب وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، نشطت التيارات الدينية بمختلف أطيافها، خاصة وأن القيادة السياسية الجديدة، الرئيس السادات، خففت القبضة الأمنية في الجامعات والحياة العامة، كما أرادت أن ترفع الحصار عن تيار التدين في المجتمع والجامعات، كجزء من مصالحة مجتمعية جديدة تمارسها عادة الحكام الجدد لإعطاء انطباع عن أنهم مختلفون عما سبق، وأن عهدهم سيكون عهد الحرية والعدالة واحترام إرادة الشعب، وكذلك كان ظهور التيار الإسلامي في الجامعات وقتها يمثل خصما من نفوذ التيار اليساري والناصري الذي أتاحت له السلطة أيام التنظيم الطليعي والاتحاد الاشتراكي الهيمنة على النشاط الجامعي وغير الجامعي، وهو ما كان يقلق السادات في بداية حكمه، فكان إفساح المجال أمام التيار الإسلامي يمثل ذكاء سياسيا منه لتحقيق توازن يخفف احتجاجات الناصريين ضده.
كان الحراك السلفي جزءا أساسيا من هذا الطيف الإسلامي الجديد، الذي ولد مع حقبة السادات، كان مدفوعا بشوق المجتمع إلى الإحياء الديني الذي انحسر أيام عبد الناصر وضيق عليه، ومدفوعا أيضا بجهود مؤسسات سعودية كانت تنشط للترويج لهذا الفكر في العواصم العربية المختلفة آنذاك، كما كان هناك الإخوان المسلمون الذين بدأ الإفراج عنهم من السجون والمعتقلات تدريجيا، وكانت هناك جماعات صغيرة أخرى تنحو نحو العنف وتحمل ميراثا فكريا متطرفا يكفر المجتمع والسلطة معا، وظلت هذه المجموعات تنشط وتنقسم حتى منتصف الثمانينات على وجه التقريب حيث بدأت تنحسر عن الحراك الإسلامي.
التيار السلفي في الحالة الإسلامية المصرية نشط وتبلور في جامعة الإسكندرية بشكل أساس، ومن ثم انتشر على نطاق واسع في المدينة، حتى أصبحت مركزا له على مستوى الجمهورية، ثم من خلال طلبة الأقاليم الدارسين في الإسكندرية ظهرت مراكز أخرى له في المحافظات، ثم ظهر حضور قوي له في القاهرة من خلال نشاط دعاة جدد تمركزوا في مساجد عدة من أبرزها مسجد العزيز بالله في حي الزيتون.
التيار السلفي كان تيارا علميا دينيا محضا، يهتم بإحياء علوم السنة النبوية، وعلم الحديث بشكل خاص، حيث تأثر كثيرا بجهود المحدث الكبير الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، وكان يركز على إحياء معالم الهدي الظاهر، مثل اللحية والثوب الأبيض الشهير للرجال، والحجاب والنقاب والثوب الأسود للنساء، والتدقيق في أحكام الصلاة وهيئاتها، وفقه الطهارة وأحكام العقيدة وأصول الدين ومواجهة الأفكار الصوفية وما يتعلق بها من ممارسات وإحياء ونشر كتب التراث خاصة التي تدعم الاختيار السلفي الجديد، وكان هذا التيار مشهورا بمخاصمته للحياة السياسية، لا ينخرط فيها ولا تعنيه، ولا ينشغل بها، سلبا أو إيجابا، بل وكان له رأي سلبي في فكرة البرلمان نفسه من جهة نسبة «التشريع» له، وهو ما اعتبروه كفرا ومحادة لله في حكمه، وكذلك فكرة «الأحزاب السياسية» حيث اعتبروها مخالفة لقواعد السياسة الشرعية في الإسلام حسب رؤيتهم.
عزلة التيار السلفي عن الحياة السياسية ساهمت كثيرا في انتشاره، وتوسعه، ونقاء صورته، واكتسابه هيبة واحتراما في أوساط شعبية كبيرة، لأنه ليس جزءا من خصومات سياسية، وانقسامات حزبية، كما أن ابتعاده عن العمل السياسي حصنه من عواقبه المعروفة التي تنال من أي منخرط في الحياة السياسية، والتي تقوم فيها المصالح والحسابات والمواءمات والتنازلات مقام المبادئ والقيم وحتى الأخلاق، وهذا ما ساعد على تقديم التيار السلفي ودعاته ورموزه في صورة بهية ناصعة لها قبول واسع ولا تلوثها شوائب السياسة وانتهازيتها وإكراهاتها.
حتى وقعت أحداث ثورة يناير 2011، ونجاح الحراك الشعبي ـ بدعم الجيش ـ في إسقاط حكم حسني مبارك، ثم علو موجة الطموح الشعبي، وفتح المجال العام واسعا أمام الجميع، وبدأ تشكيل الأحزاب السياسية بكل حرية، والترتيب لانتخابات برلمانية متعددة واستفتاء لدستور جديد وانتخابات رئاسية، حالة من الانتعاش التاريخي للمجتمع لم تعرفها مصر منذ ثورة 1919، الأمر الذي وضع التيار السلفي أمام تحد كبير، واختيار ضروري، هل يستمرون في عزلتهم السياسية، فيكونون خارج كل المعادلات التي تصوغ الدولة الجديدة؟ أم ينخرطون فيها ويؤسسون حزبهم ويشاركون في انتخابات البرلمان ويكون لهم كلمة ونفوذ؟
في تلك الأثناء دعاني ثلاثة من رموز وقادة التيار ومؤسسيه في الإسكندرية لاجتماع ببيت داعية كبير مرموق، وطلبوا مني الرأي والتقدير كصحفي وسياسي إسلامي محايد، وانتهى الحوار الطويل ليلتها إلى إقرار خيار المشاركة السياسية، وتأسيس حزب، وأعترف أن هذا كان رأيي في ذلك الاجتماع المهم، وأعترف اليوم أني أخطأت التقدير فيه، لأنه كان مدفوعا بالعاطفة أكثر من تقدير المآلات، وتقرر بعدها تأسيس حزب النور والمشاركة في الانتخابات.
استثمر التيار السلفي حضوره الديني والشعبي الذي بناه على مدار أربعين عاما، فحقق مفاجأة كبيرة في الانتخابات النيابية، كما ساهم بقوة في حسم الاستفتاءات التي جرت والتي كانت تلاغي الإسلاميين وتدغدغ مشاعرهم بتأكيدها على مرجعية الشريعة، غير أن انخراط السلفيين في الحركة السياسية الصاخبة وانقساماتها وصراعاتها، نزع عنهم الحصانة السابقة، وبدأوا الغرق ـ اضطرارا ـ في لعبة المصالح والمواءمات، مستنقع السياسة، وفهمت المخابرات الحربية ـ التي كانت تراقب الجميع ـ أهمية دورهم في المعادلة الجديدة، ففتحت قنوات التواصل معهم، وفق مخطط ضرب الجميع بالجميع، وحولتهم إلى شوكة في خاصرة الإخوان وحكم الرئيس مرسي، وقد ساهم الإخوان ـ بأخطائهم ـ في توسيع الشقة معهم بدلا من احتوائهم، حتى وقع الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013، حيث كان لحظة فارقة أمام الأحزاب والكتل السياسية، ووضعت السلفيين أمام اختيار مر، ما بين المبادئ والمصالح، ولما كان التزام المبادئ وقتها يحمل تكاليف صعبة ومدمرة، فقد اختاروا ما اعتبروه المصلحة للدعوة السلفية، فدخلوا نفق التنازلات المظلم، وكان النفق الذي دخلوه لا يسع سوى اتجاه واحد، لا يمكنك الرجوع عنه ، ولا حتى التوقف والتمهل ، مهما قابلك مما يسوءك، وساهم في سرعة السقوط فيه قلة خبرتهم السياسية، وغياب المرونة التي تتيح لهم حفظ مسافة بينهم وبين مواقف السلطة، حتى وهم متحالفون معها.
الابتزاز القاسي الذي مارسته الأجهزة الأمنية ـ بلا رحمة ـ على التيار السلفي وقياداته، وتوظيفهم في استحقاقات سياسية أو انتخابية مشينة، تسبب في تشويه صورتها وسمعتها، وانحسار تدريجي سريع وواسع النطاق للقبول الشعبي الذي كان لهم، وأصبحوا موصومين بما يسوء، وحتى الشخصيات الدعوية الشهيرة، نجوم الدعوة السلفية، انحسرت الأضواء عنهم، وزهد الناس فيهم، رغم كل ما بذلته الدعوة وحزبها من جهود فقهية لتبرير مواقفهم واختياراتهم السياسية، لأن الحاسة الفطرية عند الناس يصعب خداعها طويلا حتى لو استخدمت الدين نفسه في هذه اللعبة.
وفي المحصلة، عندما خرج السلفيون من عزلتهم العلمية بين كتب التراث وقضايا الهدي الظاهر والعبادات والسنن والعقائد المجردة، وانخرطوا في الانقسام الحزبي والصراعات السياسية، ضاعوا، وخسروا أنفسهم أولا، وخسروا دعوتهم، وخسروا الهيبة الاجتماعية التي كانت لهم، وتلاعبت بهم ـ ووظفتهم ـ الأجهزة الأمنية، وضاع ميراثهم العلمي والقيمي الذي اشتغلوا عليه طويلا منذ السبعينات، والذي أصبح محل شك وريبة لدى الجيل الجديد حول قيمته وجدواه وأيضا مخاطره