مقالات

د. أحمد زكريا يكتب: المصلحون لا يتقاعدون!!

أصحاب الدعوات الصادقة لا يتقاعدون، ولا ينضب معينهم، ولا تتوقف وسائلهم عن نصرة دعوتهم، وتحقيق أهدافهم، فإن سد في وجههم باب استعانوا بالله وبحثوا عن أبواب أرحب وأقوى.

لذلك كان الفرق هائلا بين الصالح والمصلح، فمن أي الفريقين نحن؟!

وفي القرآن بغيتنا:

يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيهْلِكَ القرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مصْلِحُونَ} [هود:17].

تأملوا: {وَأَهْلُهَا مصْلِحُونَ} لم يقل جل شأنه: “وأهلها صالحون” فالمصلح شيء والصالح شيء أخر، فلا يفيد كثرة الصالحين بدون إصلاح…!

الأمم التي لفظت الأخلاق وعم فيها الفساد، وأصبح الظلم والطغيان ديدنها أمم منخورة الكيان ولا استمرار لها، يبتليها الله بالهلاك والدمار،

ويتضح هذا جليًا في قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا متْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16]،

أي أن البلد الذي يعم فيه الفسق والفساد ولا تجد (مصلح) يغير ذلك تهلك جميعها الصالح والطالح!

وفي الحديث الذي روته زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها: “أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دخَل عليها يومًا فزِعًا يقولُ:

«لا إلهَ إلا اللهُ، وَيلٌ للعرَبِ من شرٍّ قدِ اقترَب، فُتِح اليومَ من رَدمِ يَأجوجَ ومَأجوجَ مِثلُ هذه»

وحلَّق بإصبَعَيه الإبهامِ والتي تليها، قالتْ زَينَبُ بنتُ جَحشٍ: فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أفنَهلِك وفينا الصالحونَ؟

قال: «نعمْ، إذا كثُر الخبَثُ»” (صحيح مسلم:2880)، أرأيتم: نهلك بالرغم من وجود الصالحين الطائعين! لماذا؟

لأن الفساد هو الطاغي على كل شيء، ولا يوجد المصلح الذي يرد الفاسد الظالم عن ظلمه وفساده..

عابدون طائعون

فما قيمة أن نكون لله عابدين طائعين وقد تركنا الظالم المفسد في الأرض دون أن نأخذ على يديه،

فمن شروط الصلاح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا أن ننزوي وحدنا بعيدًا نتعبد الله ونقول ما شأننا وهؤلاء، وننسى قول نبينا عليه الصلاة والسلام:

«إنَّ النَّاسَ إذا رأَوا الظَّالمَ فلم يأخُذوا علَى يديهِ أوشَكَ أن يعُمَّهُمُ اللَّهُ بعقابِهِ» (صحيح مسند أحمد:36/1)،

عقاب الله سيعم الجميع إن لم نسارع في الإصلاح والأخذ على يد الظالم ومنعه والوقوف في وجهه لرد ظلمه وفساده،

لن نكون بمنأى عن العقاب لمجرد أننا صالحون، سنُسأل لماذا لم نتحرك ونمنع الظالم ونأخذ على يديه؟ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«من رأى مِنكُم مُنكرًا فليغيِّرهُ بيدِهِ، فإن لَم يَستَطِع فبِلسانِهِ، فإن لم يستَطِعْ فبقَلبِهِ، وذلِكَ أضعَفُ الإيمانِ» (صحيح مسلم:49)،

لقد حدد لنا من لا ينطق عن الهوى الكيفية التي يجب اتباعها لتغيير المنكر، المنهج الذي يجب أن يُتبع للإصلاح،

فمن استطاع بيده فليقم بدوره، ومن لم يستطع فبلسانه، ثم بقلبه -على الأقل- والذي هو أضعف الإيمان، عسى الله أن ينجينا من عذابه وعقابه بضعفنا هذا.

 يقول الشيخ السعدي:

«{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيهْلِكَ القرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مصْلِحُونَ} أي: وما كان الله ليهلك القرى بظلم منه لهم والحال أنهم مصلحون، أي: مقيمون على الصلاح، مستمرون عليه، لما كان الله ليهلكهم إلا إذا ظلموا، وقامت عليهم حجة الله..».

ويقول القرطبي في تفسير الآية: «{وَأَهْلُهَا مصْلِحُونَ} أي فيما بينهم في تعاطي الحقوق؛

أي لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد،

كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان، وقوم لوط باللواط، ودل هذا على أن المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدنيا من الشرك، وإن كان عذاب الشرك في الآخرة أصعب…».

ولعل تعبير صاحب الظلال يوضح المسألة ويجليها:

والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة، إنا لا نضيع أجر المصلحين.

وهو تعريض بالذين أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه ثم هم لا يتمسكون بالكتاب الذي درسوه، ولا يعملون به،

ولا يحكمونه في تصوراتهم وحركاتهم ولا في سلوكهم وحياتهم.. غير أن الآية تبقى -من وراء ذلك التعريض- مطلقة، تعطي مدلولها كاملا، لكل جيل ولكل حالة.

إن الصيغة اللفظية: «يمسكون».. تصور مدلولا يكاد يحس ويرى.. إنها صورة القبض على الكتاب بقوة وجد وصرامة.. الصورة التي يحب الله أن يؤخذ بها كتابه وما فيه.. في غير تعنت ولا تنطع ولا تزمت..

فالجد والقوة والصرامة شيء والتعنت والتنطع والتزمت شيء آخر.. إن الجد والقوة والصرامة لا تنافي اليسر ولكنها تنافي التميع!

ولا تنافي سعة الأفق ولكنها تنافي الاستهتار! ولا تنافي مراعاة الواقع ولكنها تنافي أن يكون «الواقع» هو الحكم في شريعة الله! فهو الذي يجب أن يظل محكوما بشريعة الله!

والتمسك بالكتاب في جد وقوة وصرامة وإقامة الصلاة – أي شعائر العبادة – هما طرفا المنهج الرباني لصلاح الحياة.. والتمسك بالكتاب في هذه العبارة مقرونا إلى الشعائر يعني مدلولا معينا.

إذ يعني تحكيم هذا الكتاب في حياة الناس لإصلاح هذه الحياة، مع إقامة شعائر العبادة لإصلاح قلوب الناس.

فهما طرفان للمنهج الذي تصلح به الحياة والنفوس، ولا تصلح بسواه.. والإشارة إلى الإصلاح في الآية:

إنا لا نضيع أجر المصلحين..

يشير إلى هذه الحقيقة.. حقيقة أن الاستمساك الجاد بالكتاب عملا، وإقامة الشعائر عبادة هما أداة الإصلاح الذي لا يضيع الله أجره على المصلحين.

وما تفسد الحياة كلها إلا بترك طرفي هذا المنهج الرباني..

ترك الاستمساك الجاد بالكتاب وتحكيمه في حياة الناس وترك العبادة التي تصلح القلوب فتطبق الشرائع دون احتيال على النصوص،

كالذي كان يصنعه أهل الكتاب وكالذي يصنعه أهل كل كتاب، حين تفتر القلوب عن العبادة فتفتر عن تقوى الله.. إنه منهج متكامل.

يقيم الحكم على أساس الكتاب ويقيم القلب على أساس العبادة.. ومن ثم تتوافى القلوب مع الكتاب فتصلح القلوب، وتصلح الحياة.

إنه منهج الله، لا يعدل عنه ولا يستبدل به منهجا آخر، إلا الذين كتبت عليهم الشقوة وحق عليهم العذاب!

جعلنا الله وإياكم من المصلحين الصالحين.

د. أحمد زكريا

كاتب وباحث

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى