أبو جرة سلطاني يكتب: جنازة شهيد أم وثيقة إدانة؟
صبيحة الجمعة 02 أغسطس 2024 حطت بنا طائرة الخطوط الجوية الجزائرية في مطار الدوحة الساعة العاشرة والنصف. تركنا حقائبنا؛ بعد استكمال إجراءات العبور؛ واستعجلنا الوصول إلى مسجد محمد بن عبد الوهاب لإدراك صلاة الجمعة وشهود جنازة الشهيدين القائد إسماعيل هنية وحارسه الشخصي اللذين ارتقيا إلى رحمة الله بالعاصمة طهران يوم الأربعاء 31 يوليو بعد مشاركتهما في حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان.
لم تكن الطريق الى مكان الجنازة سالكة بسبب الجموع الغفيرة الزاحفة تلقاء هذا المكان الذي تشرف اليوم باستقبال “شهيد القضية”. ومع أننا كنا وفدا رسميا نتحرك تحت سيادة العلم الجزائري بسيارة رسمية كانت تقلنا إلى عين المكان – رفقة سفير الجزائر – وبحوزتنا شارة رسمية بالدخول من بوابة كبار الضيوف صادرة عن وزارة الخارجية القطرية.. لكن عواطف محبي هنية كانت أقوى من تعليمات الجهات العليا.
كانت الشوارع المؤدية إلى المسجد مزدحمة على آخرها. وتعليمات التنظيم صارمة لا تقبل وساطة ولا تسمح باستثناء. ومع أن المسافة قصيرة. السبب الذي جعل أغلب من جاءوا من الجزائر. أفراد ووفودا. لم يحضروا صلاة الجمعة ولا كلمات التأبين ولا صلاة الجنازة ولا حتى مراسم الدفن في “مقبرة لوسيل” التي يرقد فيها جثمان مؤسس دولة قطر الشيخ جاسم (1913) بجوار بيته المسمى “قلعة لوسيل” لما لهذه المقبرة من رمزية تاريخية لدى القطريين (هي عندهم بمثابة مربع الشهداء عندنا لا يدفن فيها سوى علية القوم). وهي مقبرة خاصة تبعد عن العاصمة الدوحة بحوالي سبعة كيلومتر.
لم يسمح لجموع المصلين بدخول قاعة الصلاة الكبرى المخصصة للوفود، فصلوا في صحنه وفي باحاته وامتداداته.. بينما سمح بالدخول للوفود الرسمية وللشخصيات العالمية الذين توافدوا من كل مكان..
ولمكانة الجزائر لدى سلطات قطر. قدموا لنا تسهيلات فوجدنا أنفسنا في الصف السادس قريبا من منبر خطيب الجمعة الذي كان فصيحا ومنهجيا وجريئا في طرح موضوع المقاومة والشهادة. وكانت خطبتاه قصيرتين. فقد اكتفى بعرض موجز وبلبغ ضمنه خمس رسائل:
– تاريخ الصراع على المسجد الأقصى.
– مضمون ما وعد الله به المؤمنين في سورة الإسراء.
– خصال الشهيد رمز المقاومة والصمود والتضحية الإيثار..
– دعوة إلى وحدة الصف ودعم نهج المقاومة والسير على درب من قدموا حياتهم فداء للتحرير..
– إشادة بدور دولة قطر. ودعاء للشهيدين.
وصلى بالماعون والمسد.
وقبل صلاة الجنازة تناول الكلمة أربعة متدخلين كان أبرزهم القائد خالد مشعل، فأشادوا بخصال فقيد الأمة وسيرته وغدر الكيان المحتل به وبمن سبقوه وتنكيله بالشعب الفلsطيني كله. وخذلان بعض الأنظمة وتواطؤها وتطبيعها مع الغاصب.. وطمأنوا الحشود الغفيرة بأنهم ثابتون على خط الشهيد وأن استشهاده زادهم إصرارا على عدم الاعتراف بإسرائيل (كما كان يرددها القائد إسماعيل) وكلهم عزم على تحرير فلسطين وتطهير الأرض المباركة من رجس المحتل.
كانت التكبيرات من خارج المسجد تهز القلوب وتشحن النفوس وترعب الخونة. ومع هتافات منسجمة مع جلال الحدث. وتحت حرارة العواطف وحرارة الطقس (40درجة) تحرك الموكب المهيب صوب «مقبرة لوسيل» التي تضم جثمان مؤسس دولة قطر الشيخ الوالد جاسم بن ثاني بن جاسم.
لم يتمكن كثير من المعزين من حضور مراسم الدفن لسببين:
– جهلهم بمكان المقبرة.
– بعد المسافة وصعوبة المسالك تحت حراسة مشددة.
عندما كنت واقفا على شفير القبر أناول القائمين على الدفن بعض الحجارة لسد فتحات اللحد وأتأمل دس جثماني الشهيدين تحت تراب القبرين تساءلت عن قيمة الإنسان في الحياة: كيف يولد في أرض لم يخترها؟ في زمن لم يختره؟ ويموت (أو يقتل) في أرض لم يكن يخطر له على بال انه سيلقى الشهادة على اديمها؟ ويدفن في أرض لا يملك فيها بيتا ولا مالا ولا أسرة ولا عشيرة؟؟
انتهت مراسم الدفن بسرعة وببساطة وبتنظيم محكم.. وبكلمة موجزة ودعاء.. وأعلن عن تنظيم مراسم العزاء في خيمة ضخمة تفتح، بين الساعة السادسة مساء إلى صلاة العشاء، لجميع الراغبين في سماع كلمات المؤبنين ومواساة قيادة الصف الأول من ممثلي الفصائل إلى جنب أفراد من عائلتي الشهيدين. وانصرف القوم بهدوء..
في المساء كانت الجموع غفيرة. داخل خيمة عزاء عملاقة.. وكان التنظيم باهرا وصارما ولا يسمح بأي تجاوز. وقف قادة المقاومة في صف طويل منتظم وعلى يسارهم شخصيات مرموقة وعلى يمينهم من سمح لهم بالدخول. وأمامهم مصفوفة كراسي لمن يرغب في متابعة كلمات الضيوف المختصرة. وكانت عشر كلمات لعشر شخصيات تحدثوا كلهم بالصفة التي يحملونها.
كلمات مختصرة لم تخرج عن الإشادة بدور دولة قطر. وسرد سيرة الشهيد وجهاده وصموده ومواقفه والظروف التي تم فيها اغتياله وما يترتب على القيادة الجديدة من مسؤوليات ثقيلة لسد فراغ مهول كان يشغله القائد إسماعيل بتواضعه وفصاحته وكاريزمته وشبكة علاقاته المترامية وحب الجماهير لشخصيته المبتسمة..
عدت إلى إقامتي منهكا وحاولت النوم فجفاني الكرى. فجلست أدون بعض ما علق بذهني من ملاحظات. فاستوقفتني اثنتان فاقعتين قدرت أنه لا يجوز تأخيرهما عن وقت حاجة الأمة إليهما كونهما من وحي اللحظة التاريخية
الأولى:
قد تصنع منك الأقدار قائدا فذا يملأ الدنيا ويشغل الناس. ولكن الخاتمة تبقيك او تنهيك. فهي من يجعل عمرك يمتد إلى ما بعد نهايتك إذا ختم الله لك بشهادة تمحو آثار كل ما كان يحيكه خصومك ضدك من ترهات. وصدق الإمام أحمد بقوله: “بيننا وبينكم الجنائز”..!! وجنازة القائد إسماعيل لم تكن مراسم دفن وإنما كانت وثيقة إدانة لعالم يقتل أسوده بانتظار أن تفترسه كلابه.
والثانية:
عندما كنت أواسي قيادة الصف الأول كنت أسلم بحرارة على كل قائد وأهمس في أذنه بكلمات موجزة تشبه وصية محب لأحبابه. وعندما سلمت على أخي الحبيب أسامة حمدان قلت له: «الدور عليك يا حبيبي. فاحذر»!! احتضنني وهزني وقال: «انتظرها.. (يقصد الشهادة) لقد تأخرت. والله المستعان».
قلت في نفسي:
إن شعبا له مثل هذه القيادات لن تسقط له راية حتى يحقق الغاية. حفظ الله أحبتي وجمع صفهم ووحد كلمتهم. واعانهم على ما ينتظرهم بعد هنية!! أما الذين قضوا شهداء فأحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما اتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
فلا نامت أعين الجبناء.