مقالات

أحمد مولانا يكتب: الثورة السورية.. زلزال هز عروش الطغاة

الثورة السورية ليست حدثًا عابرًا، ولا تغييرًا في منطقة نائية في العالم العربي، إنما هو زلزال بمعنى الكلمة، فللمرة الأولى في العصر الحديث

قضّت ثورات الربيع العربي مضاجع الكيان الصهيوني، ونشرت القلق في الغرب من انبعاث عربي إسلامي جديد،

فحشدوا طاقاتهم خلف القاطرة الخليجية التي قادت الثورات المضادة لدهس ثورات الربيع العربي

أميل دومًا لرفع الواقع وفق معطياته المادية، لكن مع مراعاة البعد القدري للأحداث، فالاعتماد على المعطيات المادية فقط «علمنة»

وجهل بسنن الله في الخلق وحركة المجتمعات، وإغفال المعطيات المادية دروشة،

وقد ورد في الحديث النبوي قوله صلى الله عليه وسلم «اعقِلها وتوكل».

عندما خرجت من المعتقل في عام 2010 بعد أن شاهدت اكتظاظ السجون المصرية بآلاف الشباب،

تمحور السؤال الرئيسي في ذهني حول السبيل لتغيير الواقع في ظل القبضة الأمنية القاسية، وانتشار الخوف بين الجماهير.

وحينها سألت أحد الأفاضل ممن أسترشد برأيهم في قراءة اتجاهات الأحداث، فقال:

إنَّ مسارات التغيير حين تُسد، تتدخل يد القدر الرباني لتفتح الطريق، مثلما حدث في قصة الغلام والساحر،

حين سدت الدابة على الناس طريقهم، فقتلها الغلام بحجر وآمن الناس، فارتقب حدث قدري يغير الواقع،

ولم تلبث بضعة شهور، إلا ووقع حادث محمد بوعزيزي في تونس، فأحرق نفسه اعتراضًا على صفع شرطية له، فاندلع حريق عارم طال بن علي في تونس،

وحسني مبارك في مصر، ومعمر القذافي في ليبيا، وعلي عبد الله صالح في اليمن، فضلًا عن ثورة حوربت بقسوة في الشام، وحراك قُمع سريعًا في البحرين.

زعم البعض أنَّ ما حدث مخطط لنشر فوضى خلاقة مزعومة، رغم أنَّ تلك الثورات قضّت مضاجع إسرائيل،

ونشرت القلق في الغرب من انبعاث عربي إسلامي جديد، فحشدوا طاقاتهم خلف القاطرة الخليجية

التي قادت الثورات المضادة لدهس ثورات الربيع العربي،

فتحولت بعض بلاد الثورات إلى ساحات اقتتال، واستولى على الحكم في دول أخرى مستبدون أكثر قمعًا من جيل مبارك وبن علي،

كما عادت قاطرة التطبيع مع الاحتلال التي اقتصرت سابقًا على مصر والأردن، لتضم أعضاء جددًا في اتفاقية إبراهام،

وبالتحديد الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، وبدا أنَّ الظلام خيم على المنطقة مجددًا.

كسر الباب

صبيحة 7 أكتوبر، فوجئ العدو قبل الصديق، بطوفان من المقاومين الفلسطينيين يجتاح المواقع العسكرية للاحتلال والمستوطنات في غلاف غزة، للمرة الأولى منذ عام 1948،

ويسقط نحو 1200 قتيل إسرائيلي فضلًا عن نحو 250 أسيرًا، في محصلة هي الأكبر من نوعها في يوم واحد منذ تأسيس دولة الاحتلال.

 آنذاك وفي ظل ترقب رد الفعل الإسرائيلي والأمريكي من خلفه، شاورت ذات الأستاذ الموجه مجددًا،

كيف تقرأ ما حدث؟ فالانتقام سيكون كبيرًا للغاية،

فقال: إنَّ ما حدث هو تطبيق لقوله تعالى «ادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنَّكم غالبون»،

 وإنَّ باب إسرائيل قد كُسر ولن يُجبر بعد اليوم، وإنَّ المنطقة دخلت في سلسلة أحداث لها ما بعدها،

وستكون لها ارتدادات كبرى تعيد جذوة ثورات الربيع العربي، وتحشد الجهود مجددًا نحو القدس.

توالت الأحداث، وارتكب الاحتلال مجازر غير مسبوقة في غزة، ثم انعطف في سبتمبر الماضي إلى لبنان موجهًا ضربات قاتلة لحزب الله،

وخرج نتنياهو متبخترًا بأنَّه قد قتل هنية والسنوار والضيف وحسن نصر الله، وأضعف حماس،

وصفى قيادات حزب الله، وبالفعل توصل لاتفاق وقف إطلاق نار يفصل جبهة لبنان عن غزة، وهو الأمر الذي رفضه نصر الله علنًا في السابق،

كما شن الاحتلال ضربات في اليمن وسوريا وإيران، وأعلن نتنياهو أنَّه غيَّر وجه الشرق الأوسط، واعتبر أنَّه حوَّل الهزيمة المخزية إلى نصر ساحق.

أولى الارتدادات

وسط تلك الأجواء الكئيبة، جاءت أولى الارتدادات سريعًا في سوريا،

حيث أطلقت هيئة تحرير الشام عملية عسكرية في 27 نوفمبر 2024 رفقة الفصائل الحليفة لها في غرفة ردع العدوان،

واستثمروا انشغال الروس في حرب أوكرانيا لدرجة أنَّهم استعانوا بجنود من كوريا الشمالية،

وإخلاء إيران للعديد من مستشاريها والمليشيات التابعة لها من سوريا على خلفية الضربات الإسرائيلية المتتالية هناك،

وسحب حزب الله لأغلب مقاتليه من سوريا للتصدي للعملية الإسرائيلية البرية بجنوب لبنان.

حدثت المفاجأة، فانهار نظام الأسد خلال اثني عشر يومًا، وكما يقال الفرار يولد الفرار،

فأدى انكسار خط الدفاع الأول لقوات النظام في الفوج 46 غرب حلب إلى انهيارات متتالية في صفوفها،

وباغتت الأحداث السريعة كافة الأطراف ليستفيقوا على وقع هروب بشار الأسد إلى موسكو،

ودخول أحمد الشرع «الجولاني» إلى دمشق فاتحًا منتصرًا.

الثورة السورية.. زلزال هز عروش الطغاة

إنَّ ما حدث في سوريا ليس حدثًا عابرًا، ولا تغييرًا في منطقة نائية في العالم العربي، إنما هو زلزال بمعنى الكلمة،

فللمرة الأولى في العصر الحديث تنجح حركة إسلامية عبر ثورة شعبية مسلحة في إسقاط نظام استبدادي في العالم العربي، وفي بلد مركزي،

فالشام مهد الحضارات عبر التاريخ، ومهبط الرسل، وأرض الملاحم في آخر الزمان.

وجاءت تلك الانتصارات على يد جماعات يقودها شباب في منتصف العمر مقابل نموذج تقليدي للحركات الإسلامية

التي يقودها شيوخ جاوزوا السبعين والثمانين وأحيانًا التسعين من العمر، أي أنَّ التجربة فيها الكثير من حيوية الشباب.

أدركت إسرائيل دلالات ما يحدث، فعملت على تدمير طائرات وسفن جيش النظام وأنظمة الدفاع الجوي ومخازن أسلحته الضخمة ومنشآته المخابراتية، لحرمان الثوار من الاستفادة بها،

كما تقدم جيش الاحتلال للسيطرة على المنطقة العازلة في الجولان وجبل الشيخ،

وتواصلت تل أبيب مع الدروز جنوب سوريا وقسد الكردية في شمال شرق البلاد بهدف الدفع نحو مخطط للتقسيم،

ولإثارة المشكلات ضد الإدارة الجديدة،

فيما زار قائد المنطقة المركزية الأمريكية الجنرال كوريلا مناطق سيطرة قسد لإبداء الدعم لها.

تحديات راهنة

إنَّ النجاح يغري بالنجاح، ولذا تتداول أدبيات دراسة الثورات «ظاهرة الدومينو» أي العدوى التي تسري بين الشعوب للمطالبة بحقوقها،

وللتحرك ضد أنظمة الاستبداد في حال نجاح أحدها في إحداث التغيير،

وهو ما وقع في أوروبا بعد الثورة الفرنسية، حيث انتقلت عدوى الثورة لتطيح بالحكم الملكي في عدة بلاد،

بينما أقدمت بلاد أخرى على إصلاحات تؤسس لملكيات دستورية لتجنب لهيب الثورات.

ثم تكرر الأمر مع انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي حيث تلاشت الأنظمة الشيوعية من وسط وشرق أوروبا،

ثم كان المثال الثالث في حقبة ثورات الربيع العربي التي امتدت من تونس إلى اليمن.

ولذا، فإنَّ ما حدث في سوريا ستكون له على الأرجح تداعيات على المنطقة، وبالأخص في العراق ولبنان ومصر.

ومع انكفاء النفوذ الإيراني، سيتصاعد صدام صهيوني سُني خلال السنوات القادمة.

كذلك فإنَّ التنظير السياسي الإسلامي السُني في أغلبه حلق في الفراغ لعدم وجود دولة عربية تُطبق أحكام الشريعة،

واليوم تبرز سوريا كنموذج يُرجح أن يستعيد مظلة الحكم الإسلامي مجددًا بنموذجه الحضاري والقيمي، وبما فيه من الرحمة والعدل،

وهما سمتان برزتا خلال عملية ردع العدوان، فلم تحدث مجازر طائفية أو انتهاكات على الهوية،

وتم الحفاظ على أمن وسلامة المدن والمناطق المحررة، مع عقاب أشخاص بعينهم على جرائم ارتكبوها.

تضافر الجهود من العالمين العربي والإسلامي

إنَّ أمام سوريا تحديات عديدة، تتطلب تضافر الجهود من العالمين العربي والإسلامي للنهوض بالشام،

عبر ضخ الاستثمارات وتقديم خلاصة الخبرات بما يساعد على تجاوز العقبات والأفخاخ التي ستعمل الجهات الراعية للثورات المضادة على صياغتها ورعايتها،

وتحت هذا العنوان توجد العديد من المقترحات التي يمكن التطرق لها في مقالات ودراسات قادمة.

وفي الختام، إنَّ من يتأمل حركة التاريخ، يدرك أنَّنا أمام تحول مفصلي، يشبه ما حدث في حقبة عماد الدين ونور الدين وصلاح الدين الأيوبي،

ولعلنا نقول قريبًا ها قد عاد صلاح الدين، فالتحرر من قيد الاستبداد خطوة جوهرية في طريق التحرر من قيد الاحتلال،

وإنَّ تحرر دمشق خطوة على طريق تحرير القدس؛ وبالأخص في حال تحررت القاهرة من سطوة الظلم الجاثم على صدرها.

أحمد مولانا

ماجستير علاقات دولية، باحث في مجال الدراسات الأمنية والسياسية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى