أساليب أعجمية على ألسنة العرب
يقولُ بعضُ الناسِ “كُتِبَ الموضوعُ بواسطةِ عمروٍ” وأُرسِلَ بواسطَة أحمدَ، وربما قال “كُتِب الموضوعُ من قِبَل زيدٍ”. فما حكم استخدامِ هذا الأسلوب؟
الجواب:
من الأساليب الشائعَة قولُهُمْ: “كُتِبَ الموضوعُ بواسطةِ عمروٍ”، و”كُتِب الموضوعُ من قِبَل زيدٍ”، و”أُرْسِلَ بواسطة فلان”.
هذه الأساليبُ ليسَت عَربيّةً فصيحةً صحيحةً ولكنّها ترجماتٌ حرفيّةٌ من بعض اللغاتِ الأجنبيّةِ، فمن أساليب تلك اللغاتِ البَدءُ بالموضوع أو الذّات في حالَتَيِ البناء للفاعل والبناء للمفعول، فَمن أساليب اللغات: “فُلانٌ كتبَ الكتابَ” و”الكتابُ كُتبَ من طرفِ فلانٍ” the book is written by John
أمّا اللغةُ العربيّةُ فيختلفُ تركيبُها عن تلكَ اللغات الأجنبيّة التي لا تبتدئ إلّا بالاسم أي الموضوع، وللعربية سَمتُها في التركيب والترتيب؛ ففي العربيّة أسلوبٌ يُسمى “بناء ما لَم يُسمَّ فاعلُه” أي ما لَم يُذكَرْ في الكلام لأغراض بلاغيّة؛ فنقولُ: “كُتِبَ الموضوعُ” من غير ذكرٍ لاسم آخَر؛ لأنّ الجملة في الأصل بُنيَت على حذف الفاعل وتَغييب ذكرِه وإنابة المفعول مَنابَه في الإعراب فَقَط؛ فلا يُعقَل أن تُبْنى الجملة عَلى طَيِّ ذكْرِ الفاعلِ ثمّ ُيُؤتى به في آخر الكَلام؛ فإن أبيْنا إلّا ذكرَ الفاعل والمفعول مع تقديم المعْتَنى به قُلنا: كَتَبَ الموضوعَ زيدٌ أو الموضوعَ كَتَبَ زيدٌ، أو الموضوعُ كَتَبَه زيدٌ، ولا نرتكبُ الترجمةَ الخاطئةَ: “الموضوع كُتب من طَرف أو بواسطة زيد”، ولا وجه لتصويبِ ما لَم يردْ سماعًا ولا يقبلُ قياسًا بدَعوى التوسُّع في اللغة وتطويرِها وتَقريبها من اللغات في منطق البناء والتركيب.
تنبيه، كثر الاعتراضُ على هذه القاعدة الراسخة، بقوله تعالى: “كتابٌ أحكِمت آياتُه ثم فُصلت من لدن حكيم خبير”، وذكر المعترضون أن الفعلين بنيا لما لم يسمَّ فاعله ثم ذُكر هذا الفاعل.
والجواب: أن هذا الشاهدَ لا يشهدُ بضدّ القاعدَة: لأن “من لدنْ” جار ومجرور متعلقان بخبر غير مذكور، والمبتدأ “كتاب” وسَوَّغَ الابتداءَ بالنكرَة كتاب أنها موصوفةٌ بجملة “أُحكِمَت” ، أمّا الخبر فمقدَّر تعلَّقَ به الجار والمجرور “من لدن”، فبَدا أنّ بين “فُصِّلَت” و”من لَدنْ” فاصلاً، وتقديرُ الكلامِ: [كتابٌ مُحْكَمٌ] وهو المبتدأ، و[كائن من لدن] وهو الخبر المقدَّر، وهو كون عام، فليس الجار “من لدن” متعلقاً بـ”فُصلَت”، بل هو متعلق بخبر محذوف هو كون عام. فظهر أن الآية يُستدل بها أيضا على صحة القاعدة أعلاه.
وإذا احتكمنا إلى أسلوب القرآن الكريم في مسألة تنزيل الكتاب، نجد أنّ هذا الأسلوبَ يميلُ إلى إفادَةِ مَعنى أن هذا القرآنَ المحكمَ المفصلَ هو من عند الله، هذه هي القضية، فتفسير المعربين بعكس القاعدَة أعلاه لا يمنع من الاحتكام إلى أسلوب القرآن الكريم، وتشهد كثير من آيات القرآن الكريم نسبةَ التنزيل إلى الله رأساً، ثُمّ إنّه هو تنزيل مخصص بصفات فمرة تجد أنه تنزيل محكم مفصل، ومرة تجد أن فيه تبيانَ كل شيء، ومرة تجد أنه تنزيل مقيد بزمان (إنا أنزلناه في ليلة القدر) ومرة هو منزل مُفصَّلا ومُنزَّلٌ بالحَقِّ: (أفَغَیۡرَ ٱللّه أَبۡتَغِی حَكَمࣰا وَهُوَ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ إِلَیۡكُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ مُفَصَّلࣰاۚ وَٱلَّذِینَ ءَاتَیۡنَـٰهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ یَعۡلَمُونَ أَنَّهُۥ مُنَزَّلࣱ مِّن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُمۡتَرِین)’ فالملاحظ أن القضية الكبرى هي التنزيل لهذا الكتاب في صفاته وأحواله الكثيرة.
وإذا قال القائلُ فما بالُ الفعل لُعِنَ في قوله تعالى: “لُعِنَ الذين كَفَروا من بَني إسرائيل على لسان داوودَ”، الذي ذُكرَ فيه ما يُفيد الفاعلَ، فالجوابُ أنّ الفعلَ المبنيَّ للمفعول له نائب فاعل هو اسم الموصول “الذين” ثُمّ جاء فاصلٌ طويلٌ [كَفَروا-من بني إسرائيلَ]، والمعنى المرادُ من الآيَة والله اعلم، أنهم عَمَّت فيهم اللعنَة وفَشَت وكَثُرَت، وكانت بدايتُها من داود عليه السلام، و”على لِسانِ داوودَ” فيه معنى الاستعلاء المجازي الذي يدلُّ على تمكُّن الملابسَة، فكلّ الناسِ تلعنُهم مؤيَّدين بما ورَدَ على لسان داودَ عليه السلام، فلَم يكنْ يلعنهم وحدَه. إذن: أولاً: لعنهم داوود ولعنهم الناس، فعمّت فيهم اللعنةُ مُلابِسةً لسان داوود، ثُم مَن معه، ثانياً: فُصل بين الفعل المبني للمفعول وما يُظنّ أنّه فاعل بفاصل طويل لإثبات أنّ اللعنة حصَلَت وفَشَت. ثُمّ جيئ بم بعدَ الفاصلِ من ملابسةٍ حاليّة.
————–
د. عبد الرحمن بودرع