الخطاب السياسي الرسمي الفلسطيني بين الوعي واللاوعي

د. وليد عبد الحي
نمطان من العدوان يعالجهما علم النفس السياسي، العدوان العضوي والعدوان اللفظي، ومع الإقرار بتشارك النمطين في بعض الخصائص، فان العدوان اللفظي يبدو أكثر تعقيدا في فهمه، بخاصة عندما يصدر عن شخصية عامة على غرار ما نسمعه في خطابات رئيس سلطة التنسيق الأمني الفلسطينية، إذ يبدو ان ذلك غير منفصل عن تركيبة معقدة للغاية يمكن تلمسها في الملامح التالية:
أولا: الإحساس العميق بالدونية: ففي حمى بروز شخصيات النضال الفلسطيني لم يكن هذا الشخص من الأسماء البارزة، وبقي في الظل لفترة طويلة، وهو ما تحول إلى إحساس «جواني كامن» بقدر من الهامشية، فالذاكرة الفلسطينية تعرف الشقيري وعرفات وحبش وأبو اياد وأبو جهاد …الخ، لكن المذكور كان مغيبا عن الصفحات الأولى لكل وسائل الاعلام، وهو ما شكل نواة الإحساس بالهامشية. وتكرس ذلك في مراحل لاحقة حاول فيها ان يشكل من نفسه «بطلا دون بطولة»، فروج فكرة العقلانية والمقاومة السلمية ومجاراة العصر دون ان يدرك ملابسات نسيج واقعه الذي يحوكه ألف نساج.
ثانيا: ثمة ظاهرة أخرى تتضح بقوة في نتائج دراسة بعنوان «World Revolutionary Readers» شملت التحليل النفسي لأكثر من 50 قائدا ثوريا من جنسيات مختلفة، إذ ترى هذه الدراسة ان الافراد الذي يعيشون الى جوار شخصية لها حضور طاغٍ تتكرس لديها شخصية الظل وتنامي الإحساس بالتبعية وبالدور الهامشي أو المساعد، وموضوعنا هنا شخصية عاشت في ظل ياسر عرفات من ناحية، وفي ظل علاقات مريبة بين الطرفين جعلت عرفات يصفه بكرزاي، وهو ما كرس الإحساس بالدونية التي أسست للعدوانية اللفظية.
ثالثا: تلمسه الذي يتعزز بما تنقله استطلاعات الرأي «غير العربية» والعربية على حد سواء عن تراجع مكانته الشعبية رغم كل محاولات «صناعة القائد» المفتعلة، والتي يحاول رسمها بحركات واقوال انفعالية تشير إلى أن لا وعيه هو الحاضر. ولعل الهمس والغمز واللمز من حول شخصيته يجعله متورما نفسيا الى الحد الذي لا يتسع معه إناء لا وعيه لاستيعابه.
رابعا: احساسه الكامن في لا وعيه بان وجوده لم يكن نتيجة كفاءة ذاتية بل هي نتيجة «اليد الخفية» التي كشفت تفاصيلها كونداليزا رايس في كتابها الضخم وعنوانه: No Higher Honor الصادر عام 2012، والتي تكشف من صفحة 165 الى صفحة 178، ومن صفحة 260 الى صفحة 386، عن كيفية ترتيب المسرح الفلسطيني باليد الخفية تلك لوصوله الى منصبه، وتتطرق في كتابها الى اجتماع كاشف بينها وبين الرئيس بوش ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق شارون وكيف وضعت الخطة للتخلص من عرفات واستحضاره بديلا.
خامسا: الفشل في إنجاز أي شيء، فأوسلو التي أشرف على زرعها لم تثمر إلا العُجَر والبُجَر، فالدولة المتوهمة لم تقم، والاستيطان يتسع، والانتخابات بابها موصد، والفساد يستشري، والأجهزة الأمنية تستحوذ على 44.6% من الميزانية العامة، ولكل 1.7 جندي أمن هناك ضابط، بل ان الجريمة الاجتماعية جعلت السلم الاجتماعي حوالي 58%…الخ. ومن المؤكد ان الفشل في انجاز أي شيء يحفر اخاديد الإحساس بالدونية.
سادسا: فشل الفهلوية السياسية التي يحاول ترويجها لإتاحة الفرصة للتصفيق، من المؤكد ان الممثل الكوميدي يستمتع بانفجار الضحك في القاعة، وهو ما يشجعه على التمادي في ذلك، والسياسي الفاشل يمنحه التصفيق والسخرية نافذة لنجومية تعوضه بعضا من مشاعر الدونية العميقة، لكن ذلك يجب أن لا يُنسي «الممثل» ان ثمة ضوابط تضعها منظومة قيم المتلقي والمتفرج، لكن خطاب سلطة التنسيق الأمني لم تعد آبهة بمنظومة قيم شعبها بل تسعى لتشويهها، فمفردة «أولاد الكلب» تنتمي لقيم النباح لا قيم الخلاف السياسي.
سابعا: ثمة علاقة بين النزوع العدواني اللفظي وبين «التقدم في العمر والاحساس باقتراب النهاية»، فالفرد -بخاصة الفاشل- يتوق لمديد العمر لعله يسد بعضا من ثغرات فشله، لكن استمرار الفشل وترافقه مع شبح النهاية العضوية يمور في اللاوعي فيخرج صديدا لفظيا منتنا.
ولا أدري لماذا يُلح خاطر علي، فهل هذه المفردات الخارجة تجاه من يخالف الراي هي من دروس كل من:
-Aviad Rubin (المتخصص في سيكولوجية النخبة الفلسطينية والتلاعب بها)
-Yoni Ben Menachem (المتخصص في دور الاعلام في التلاعب بسيكولزجية المجتمع الفلسطيني)
-Eran Halperin (المتخصص في التفكير التناقضي (Paradoxical Thinking)
– Ron Schleifer (المتخصص في الحرب النفسية مع الفلسطينيين).
أخيرا:
ان التنسيق الأمني الذي تنفرد به السلطة الفلسطينية من بين كل ثورات التاريخ يواكبه تفرد جديد الآن يتمثل في «العدوانية اللفظية على المعارضة»، فهناك فرق واضح جدا بين الخلاف في الرأي حتى في اقصى حدود الغضب، وبين مرض التطاول اللفظي الذي يتغذى على دونية عميقة تتوارى في اللاوعي، والخشية ان تكون موجهة بيد خفية أيضا..
ربما لكل ما قلته.