“الـظَّــفـــــر”.. قصة: د. ياسر عبد التواب
وحين دخلت علينا الممرضة ورأت ما أقوم به.
صرخت في هيستريا وقالت : يا دكتور ماذا تفعل؟
**
قال لي : صدقني يا دكتور ستريحني كثيرا..أليس مهمتك أن تساعدني؟.. نعم هذا سيساعدني كثيرا ..
أرجوك افعل
سكت وظل صدره يعلو ويهبط وأنا أنظر إليه مشدوها
**
شابتان وامرأة
فزعن.. جريْن ..هربن
ظفر بهن
فتاة أخرى صغيرة السن ..طفلة هي.. أصابها وتركها تنزف ..
**
يطاردنه.. يجرين خلفه ..يمسكن به ..تطعنه إحداهن في رقبته
والأخرى تقتلع عيناه
والثالثة تضربه على رأسه ..والفتاة الصغيرة تنظر له بحسرة ولوم
كل يوم هكذا
يعتصر نفسه لئلا يشتكي
لكن الأمر صعب حقا
**
لا لستُ نادما
يشيح بوجهه مخفيا الكذب أمام كاميرا الصحفي المحبط الذي منّى نفسه بسبق
فقط أنا عاتب على من كانوا مني ثم تركوني!
**
الوحدة قاتلة هي الأخرى
أين هم جميعا ؟
كانوا يتهيبونني ..يتملقون ..ينافقون
ثم انفضّوا
كانوا يعطونني أموالا ..لكي أحميهم من أعدائهم
الآن لا يسأل عني أحد منهم
أحتد : وعصابتي وصبياني الذين كانوا يأكلون من خيري
لا أرى منهم أحدا!
شرد وتنهد : شفقة كاذبة لا أتوقع غيرها
فهذا ” سِلو كارنا ”
إن وقعت انفضوا عنك
الآن لا يزورني أحد ..
ولا يسأل عني أحد..
ولا ينفق عليّ أحد
وهززت رأسي مستغربا.. فالبون شاسع بين ما يحدثني عنه وبين خبراتي في الحياة
ولكني أتذرع دائما بالصمت ..أسمع وأسكت
خبرة مهنية وحياتية !
**
لكن هي..
شفتاه تختلجان وصوته ينخفض : حتى هي ..
جاءتني في أول شهر..
وآخر مرة رأيتها كفكفت دموعها وسلمت عليّ بتردد ..
وشعرتُ وقتها أنها آخر مرة
من كانت تراني مصارعا للأسود وبطلا لا يشق لي غبار ولا يتكلم أحد بحضرتي ..
لا تحتمل أن تراني كومة عظام بالية
راحت هي الأخرى..
يشيح بوجهه
**
شابتان وامرأة ..وفتاة صغيرة
يطاردنه.. يجرين خلفه ..يمسكن به ..تطعنه إحداهن في رقبته
والأخرى تقتلع عيناه
والثالثة تضربه على رأسه
**
ومن بعيد أرى أطفالا يهرولون تجاهي
لا أعرف من هم وما قصتهم..
لكن ثيابهم مخرّقة ..وشعورهم معفّرة..
وأجسامهم تكبر وتكبر بشكل مرعب
إنهم يريدونني ..سيأكلونني إن أدركوني !
كأنهم خرجوا من المقابر أو من بيت تهدم فوق رؤوسهم
أهرب
وقدماي لا تحملاني
يحاصرونني..
ويضيقون الحصار
أصرخ وأصرخ..
كل يوم هكذا
**
نعم يا دكتور لا حاجة لي بالبقاء
لقد انتهيت
لا تحدثني عن التوبة – ككل مرة – فلستُ لها أهلا
حتى لو تبت يا دكتور فهل يغيّر هذا ما أنا فيه؟
أكرر عليه يائسا : التوبة واجبة وبابها مفتوح فلتعمل لآخرتك على الأقل..
ولقد تاب الله تعالى على رجل قتل مائة نفس
يقول : فهل لو تبت تفعل بي ما طلبته منك؟
**
يرقد مثيرا للشفقة ..هو لا يرى نفسه لكني أراقبه من بعيد ..
لا أمل على الإطلاق في أي تحسن لحالته..وهو يدرك ذلك
كما أن إمكانات المشفى الحكومي الذي أعمل به ضعيفة للغاية لولا إخلاص مديرها لما كان لنا أن نقدم الخدمات البسيطة التي تحفظه على قيد الحياة
فلا أدري أهذا نعمة له أم نقمة عليه!
**
يضمحل ..
هو أقرب وصف له..
فجسده مستمر في الضمور مذ أصابته شظية بعموده الفقري أثناء ما يقوم به
آذت نخاعه الشوكي العنقي وأوقفت الإمداد الدموي عبر أليافه العصبية فشلّت حركته وطرحته باليا نهبة لتداعي الانهيار
أراقب لسانه وهو يثقل ..
عقله وهو يضعف..
تشنجات تصيبه في الوركين والكاحلين..
لا يسيطر على أمعائه ..ولا مثانته ..
وأحيانا تضعف قدرته على التنفس الطبيعي
لا يقدر على الجلوس إلا بمساعدة ..ويعاني من قُـرح الفراش
سبحانك يا رب كم تعطينا من النعم ونحن غافلون عنها
**
يحكي لي عن أشباح تطارده..
عن فتيات يقتلنه ..
عن أطفال يكبر حجمهم ويضربونه
عن سادة يرشونه ويطلبون منه قتل منافسيهم أو إحراقهم
ثم تعاوده الكوابيس بأنه هو المقتول والمحروق
عن استخدامه في السياسة والانتخابات وتخويف الناخبين وتفريق المتظاهرين
المظاهرات نفسها صارت كوابيس أخرى ..
تلتف حوله كالثعابين ثم تعتصره
وهويصرخ
يضحك في أسى ويضيف : كنت أعرف أنهم سلميون لكني كنت أشوش عليهم وأهددهم مع صبياني ونهاجم المظاهرات من خلفها لنظفر ببعضهم فإما نسلمهم للسلطة أو نتسلى عليهم
سألته : حتى الأطفال والنساء؟
نظر لي نظرة خاوية ..ثم سكت
**
ليست القوة فقط ما كان يميزه ..بل قلبه الجسور وجرأته على الأذى
– كنت أضرب كل زملاء الصف واحدا تلو الآخر ولا أستريح إلا حين أرى الدماء تسيل منهم – ويردف : أشعلت النار في ثوب طفلة في مدرستي وكادت النيران تلتهمها
وطردت من المدرسة بعد معاناتهم معي وفشلهم في “ترويضي” وبعد طول استدعاء لولي أمري وعدم استجابة..طبعا
– ذات مرة ألقيت حجرا من أعلى على جارنا الشاب الذي كان بادي القوة فأدخل المشفى شهورا حتى برأ..
يذكر لي ذلك وغيره من ذكريات الطفولة بتبلد وكأنه يحكي عن مشهد من مباراة رآها سابقا
رغما عنه يبتسم ..وأشمئز
**
أبوه كان مسجونا
وأمه تتاجر في المخدرات ..وفي أشياء أخرى
**
مذ عرفت طريق رجل الأعمال الشهير وانفتحت عليّ أبواب الخير !
الرجل يضمني لأعماله الخفية
أحرق ..أضرب ..ربما أقتل ..
حسبما يطلب مني أفعل
ولا أناقش
ثم أجني الثمار
وبعدها ضمتت صبية لي أخترتهم بعناية لأنهم سينفذون أوامري..
تسألني من أين ؟
هه.. أولاد الشوارع كثر !
وكثير منهم يرغب في العمل معي ويعرض نفسه علي
لنا عالمنا يا دكتور ..
يمكنني توريد كل ما تحلم به..حتى نساء شرسات تسلطهن على أعدائك
لو أردت شيئا من ذلك فاطلب مني ولا تتردد!
**
لكن الشغل في السياسة قفزة عالية
صرت أتعامل مع الكبار ..
هههه
شغل مربح وبالجملة ..
عملية واحدة تكفيني لشهر وأكثر
الانتخابات ..المنافسات
وأخيرا المظاهرات !
وماذا تقصد بالمظاهرات ؟
ألا تعرف يا دكتور ..؟
إنها بيضة ذهبية ..شغل يومي كبير !
من هنا لهناك
تأتيني الإخبارية ..أتحرك ورجالي..نضرب ونجرح ونطارد..
وربما أمرونا فنقتل واحدا أو اثنين
نعتقل ..عشرة على الأقل
الأمر سهل علينا فهم مجموعات من الشباب التافه المترف لم يسبق له أن واجه ما نواجهه نحن
يعتبرون أنفسهم أولاد ” ناس ” ونحن كأننا حشرات.. دائما يحتقروننا ..
وها قد تمكننا منهم
اليوم نحن نقوم بدور مشروع ليس كما السابق ..الحكومة هي التي تطلب منا وتشجعنا وتعطينا
أخذنا راحتنا ..الأموال غنائم ..والفتيات كذلك !
أصمت مذهولا ..أود أن أخنقه بيدي..شباب تافه مترف أيها المجرم ؟
**
رويدا صرت أحفظ شكواه وحكواه
وأمل من طلبه المُلح
رويدا ينمو لدي شعور بأن الله تعالى ينتقم منه ويذيقه من نفس الكأس الذي أذاق غيره منها
هو نتاج غريب لوهن المجتمع وقسوة الانحراف فيه ..
نموذج ضال لأسرة منهارة ولمجتمع فاسد
الانتقام ..من الجبار على ما فعل
والله تعالى هو الحكم العدل وقد ابتلاه وآذاه
فلم لا أكون أداة لهذا الانتقام؟
**
طبيب أنت
فلم تنشغل بأكثر من مهنتك ؟
قديما قالها زميل لي لما قررت التبرع بالدم لفتاة مصابة فصيلتها نادرة
أحضرت إلينا إثر يوم دام من المظاهرات
مجروحة في عنقها ..كأن من أصابها فعل ذلك لتنزف ..
وهي نفس فصيلتي واحتاجوا لنقل دم لها
وكان ذلك ليلا وفي يوم عطلة وكل السبل لذلك مغلقة
استأذنته للتبرع فهو رئيسي.. فنصحني ألا أفعل
وقال لي : دعهم يتصرفون ..لو فعلت هذا مع كل مريض فلن تعيش شهرا
قلت : الفتاة تموت أمامنا
قال : ستموت حين يأذن الله بذلك
قلت : لكنا نهيئ الأسباب
وماتت الفتاة ..حقا ماتت ..
لكن بعد أن نقلت دمي إليها بمعاونة زميل آخر
ماتت ..لأني لم أتحقق من البروتين على سطح الكرات الحمراء المسمى ( الآر إتش )
والذي يجب أن يتوافق بين الناقل والمنقول له وإلا مات..
وكان عندها سالبا وعندي موجب ولم يتسن لي التحقق في تلك الليلة السوداء..جازفت
وتسبب ذلك في الوفاة
غامرت بهذا..في لحظة حرجة .. لكني فشلت !
وليس كل ما يتمناه المرء يدركه
هل كان زميلي في البداية محقا ..أم أنا المحق؟
إشكالية تطاردني
هل تشفع نيتي الحسنة في غفران خطئي ؟
كالعادة تمت تسوية الموضوع في المستشفى ومداراة أهلها
ولامني بعدها مدرائي لوما شديدا وحولني المدير للتحقيق ..
ثم أغلق الملف
وسألت بعدها شيخا فأخبرني بوجوب تسديد الدية للقتل الخطأ
لا زلت أجمعها دون أن أخبر أحدا
**
صراخ الممرضة يتعالى ..وهو يئن مهتاجا على سريره
فقد بصق على وجهها وعضها وشد شعرها بفمه
لم أفهم وقتها ما الخطب بين ولولتها واشمئزازها
ووقفت أمامه متسائلا وهو متنمر ..يبعث الهيبة في النفس رغم شلله
وهذى بكلام مفاده أنها تتذمر منه وتعامله بقسوة فعاقبها !
يا الله ..ألم تهدك الأحداث بعد ؟
الممرضات تمالأن عليه بعد ذلك ورفضن خدمته
وحين أمرهن المدير بالعودة لُمنَني بأعينهن وببعض كلمات تند منهن على إخباره
**
يا دكتور الأمر بسيط جدا ..أعطني حقنة أو دواء ..أو افعل أي شيئ فأنت تعرف كيف تنهي الأمر
أشرد ..وأصمت
**
هل أخالف كالعادة ؟
وبأي حجة ؟
المرة الماضية كانت نيتي حسنة..لكن هذه المرة بأية حجة ؟
وأنظر إليه ..يضمحل
سينتهي الأمر حتما
لكن الأيام تمر عليه كالدهر ..وأشعر بثقلها عليه
جربت مرة هذا الشعور حين كسرت إحدى رجلي وأنا صغير
وعبثا حاولت تمضية الوقت
لكنه بطيئ..
بطيئ
زارني الأصدقاء
ووضعوا أمامي قصصا وكتبا وجهاز التلفاز
لا فائدة
وحين تقضي وقتك في منزل ممنوعا من الحركة فاملل واليأس يتسللان إليك
الانتظار لمدة شهر طويل وممل..
أما هو فلا أمل لديه.. لا في شفاء ولا في تحسن
لا أمل لديه في أي شيئ ..لا يحدب عليه أحد ..ولا ينتظر شيئا
لا أمل فيه
مهما أخفينا عنه فهو يشعر
والجميع ينفض عنه..آخرهم الممرضات
وحتى الإدارة تنتظر موته ليخلوا المكان لغيره
لم يبق له إلا طبيبا متعاطفا ..
هو أنا ..يراودني ويسألني
والعجيب أنه لم يعبر لي يوما عن امتنانه لي أو شكره لمواساتي
**
تطارده الفتيات ..ويفر منهن خائفا وجلا
لم يعتد على هذا الفرار
لكنه يهرب ..ويهرب ..وفي الأخير يدركنه ..يفقأن عينه ..وهو يطالعهن !
وتأتي الفتاة الصغيرة ..عمرها يتعدى العاشرة بقليل..تعضه في رقبته ..فيتألم لذلك ألما كبيرا ويصرخ
ويشعر بدمائه تنزف وتنزف ..حتى تكاد تنتهي
ويأتي الأطفال المحروقين..يحرقونه فتشتعل النار في رجليه وتنشب في ظهره وتنساب لباقي جسده ..ثم يجزون رقبته
لكنه لا يزال يرى..
يمر به رجال كثر يطأونه بأقدامهم
ونسوة ينشبن أظافرهن في جسده ويضربنه بحجارة ..
يرجمونه جميعا..وينهال عليه التراب من كل صوب
ويصرخ مستغيثا..ويئن هائجا..
وأنتبه وأهدئ من روعه ..ثم أحقنه بأحد “مضادات العصاب” ليهدأ
لا تقل ليست حالته ..لكن هذا يهون عنه
وهل لديه ما يخسره؟
نحن فقط نحافظ له على حياته ولا تسألني لماذا أيضا !
**
ثورة هو أحد معذبيها ..
حكم جائر ..هو أحد مثبتيه
قاتل هو لا ريب.. بل هو صائل يجب دفعه
وما عقاب القاتل؟
سمه بلطجيا أو شبيحا أو قاتلا أو مرتشيا فهو كل هذا
جرعة غضبي منه تتعالى ..
وهو يرقد أمامي بلا قوة
لكن عيناه تشعان قسوة..
مثله كمثل من قال الله تعالى عنهم : ( ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون )
حين يقف من يستحق العذاب متمنيا العودة للدنيا ليكونوا من المؤمنين ..ولكنهم كاذبون
لو ردوا لتكرر منهم نفس الإجرام
**
أحمّله كافة الأخطاء
أخطاءنا ..وأخطاء من ظلمنا !
لا.. ليس ضحية ..هو مجرم يستحق العقاب
وجوده بيننا خطأ كبير ..ليس هنا مكانه
هو لا يفتؤ يغريني بالخلاص منه
لقد وقعت الفريسة ..فلم لا أقتص منها ؟
ثم انتظر..ما هذه الفتاة التي تطارده في حلمه
هه؟
فتاة تعدى سنها العاشرة بقليل
فتاة مجروحة في مظاهرة
فتاة تنزف من رقبتها
فتاة تبرع لها طبيب بالدم لينقذها ..فأماتها
أكاد أضرب رأسي بالحائط
**
هذا اليوم هو متنمر حقا ..يزمجر معترضا ..يصيح ..ويرتفع أنينه وشكواه
الممرضة أمامه منزعجة ومترددة
ذهبت إليه وتكلمت معه بلطف
نظر إليّ بلا مبالاة
صرفت الممرضة
وجلست أهون عليه ..كلمته عن ذكر الله فهو يهدئ النفس وعن الصلاة فهي واجبة..
لعل الله تعالى أن يصرف عنه ما يشعر به
شرسا قال لي اذهب الآن يا دكتور واتركني وحدي !
**
فتاة تعدى سنها العاشرة بقليل
فتاة مجروحة في مظاهرة
فتاة تنزف من رقبتها
فتاة تبرع لها طبيب بالدم لينقذها ..فأماتها
**
جلست في غرفة الأطباء أطالع نشرات الأخبار وبرامج الحوار وأقلب فيها
الأخبار الكاذبة ..والحجج المتناقضة..كلها كذب
نفاق عالمي وإقليمي ومحلي متواطئ مفاده : إما تعودون عبيدا لكل هؤلاء السادة..
أو الإبادة والقتل بلا رحمة
ويبدو السادة في أبهى حلة وكأن شيئا لا يحدث
وكأن شعوبهم لا تمزق
كأن سجونهم خالية
وشباب بلادهم في عافية
عندنا يبتسمون بثقة
ويتكلمون بثقة
ويتجاهلون بثقة
ويهددون بثقة
حتى القضاة وعلماء الدين يفعلون
كلهم يجبر المعترضين على الحظيرة ليعيدوهم إليها أو يقتلوهم !
وتنهدت ..وقلت هو جزء من تلك المنظومة
هو مخلب للقط
لكنه تحت يدي وهذه نقطة التفوق
**
فتاة تعدى سنها العاشرة بقليل
فتاة مجروحة في مظاهرة
فتاة تنزف من رقبتها
فتاة تبرع لها طبيب بالدم لينقذها ..فأماتها
فتاة هو قتلها وأجهزت أنا عليها
**
حان وقت مروري ..لا أدري لم أستثقل هذا الليلة
مررت على أغلب المرضى ..وفي نيتي أن أختم به
لا أدري لماذا لكنها عادتي فهو غالبا يأخذ وقتا
مؤخرا كنت أستعجل وقوفي عنده لكنه في كل مرة لا يزال يكرر عرضه لي
يريد أن أخلصه من حياته
أن أقتله قتلا رحيما بطريقة لا تبدو منها شبهة
وكنت أرفض
لكن نفسي تراودني ..كلما أطلعني على جرائمه أو رأيت أثر جرائمه ضمن منظومة الظلم والفساد حولي
ثم أقول لنفسي : نعم هو كذلك ..فلم لا أشفق عليه وأرده إلى جانب الحق ؟
ثم أتذكر..
**
فتاة تعدى سنها العاشرة بقليل
فتاة مجروحة في مظاهرة
فتاة تنزف من رقبتها
فتاة تبرع لها طبيب بائس بالدم لينقذها ..
فأماتها
**
قال لي الشيخ: ..لا زلت أنصحك بنفس نصيحة رئيسك ..لا تتفاعل مع المرضى بشكل غير منضبط ..علميا على الأقل وتتجاوز دورك أو تترك الحقائق العلمية
وأضاف : أنت قلت لي أن ما تعطيه له من عقاقير كان يزيد من هلاوسه وإن كان يخفف من ألمه الجسدي
تعلم هذا.. ومع ذلك تنتقم منه!
كنت تراه يتألم ..ويطلب منك التخفيف.. لكنك كنت تزيد عذابه وأنت تعلم
أتفهم منك هذا الشعور بالغضب ..خاصة أنك حضرت واقعة موت فتاة تفترض أنه تسبب جرحها..وأنك قتلتها خطأ..وهذا لا يزال افتراضا ..وإن لا يعفه من مسؤولية جرائمه
نظر في عيني وأكمل : هذا تجاوز آخر يا دكتور ..دعه وشأنه واعلم أن ما يفعله الله تعالى به أشد وأنكى
وها أنت تراه طريحا متألما
استمر يا بني في نصحه ..فإن تاب لعل الله تعالى أن يغفر له ..وإن لم يتب فسيقابل ربا لا يرضى على نفسه الظلم..
سينال حقه كاملا وهو بعد ذلك وفق مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه أو عفا عنه
أقول متألما : لكن الجرائم يا مولانا !
يربت على كتفي : مثلك أتألم.. ومثلك أشعر بالغضب لكني لا أريد أن ننجر لأخطاء مثل آخرين
لست في ساحة وغى ولا قتال لتجابه الأعداء بالقتل أو القصاص ..أنت طبيب يا فتى
دعني أذكرك بأن الصحابة رضي الله عنهم في حروب الردة لم يجهزوا على جريح حتى وإن كان يقاتلهم من قليل
أحد الأئمة يقول : أهل السنة أرحم الناس بالناس
نعم لأنهم لا يخادعون ولا ينتقمون ولا يظلمون
دعه يا بني وشأنه ..واستمر في واجبك
**
فتاة تنزف من رقبتها
فتاة تبرع لها طبيب بائس بالدم لينقذها ..
فأماتها
**
ها هو أمامي ..لا يزال متيقظا متنمرا
ألقيت عليه السلام فلم يرد ولا بهمهمة كما كان يفعل
مددت يدي أتحسس رأسه ملاطفا ..فوجئت به يعض يدي بكل قسوة
يا الله ..شرس مؤلم ولا يزال قويا
بكل طاقة الغضب الراقد أشد يدي منه وكأنه كائن مفترس
لم أخلص يدي منه إلا بعدما ضغطت على فكيه بيدي الأخرى
وعاونتني الممرضات
جرح كعض الكلب ترك أثرا عميقا ..
**
فتاة تعدى سنها العاشرة بقليل
فتاة مجروحة في مظاهرة
فتاة تنزف من رقبتها
فتاة تبرع لها طبيب بالدم لينقذها ..فأماتها
فتاة آن للطبيب أن يعذب قاتلها أو يقتله
**
سامحني يا شيخي الأمر أكبر مني
تذكرت موقف علي رضي الله عنه يوم بصق فارس الشرك الأكبر عمر بن ود في وجهه يوم الأحزاب فامتنع عن قتله لئلا يقتله بدافع الانتقام
وضيع فرصة كبيرة بذلك لكنه عاد وبارزه وانتصر عليه وقتله
وتذكرت قول علي في عمرو بن ود :
لا تعجلنّ فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز
ذو نيّة وبصيرة والصدق منجي كل فائز
إني لأرجو أن أقيم عليك نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء يبقى ذكرها عند الهزاهز
**
ومن أكون أنا لأداني عليّا في فروسيته ؟
ولست في نبل ” الدكتور أحمد ” في قصة ” نادية ” لياسر عبد التواب “
القصاص أيها المجرم ..
لأعذبنك عذابا شديدا ولأتركنك تتمنى الموت أكثر ..فأكثر..أقولها وأنا أحضر حقنة ثانية
و تمر الممرضة بمكتبي مسرعة في حزم
دكتور يحسن بك أن تلقي نظرة عليه ..
أظنه يحتضر..
يحتضر حقا !
تلك علامات لا تخفى علي..تغير اللون واضطراب التنفس ..دورة دموية تكاد أن تتوقف ..
قلب ينبض بالكاد ..ضغط متدن للغاية
إنه يموت ..
أكاد أجن ..وصرخت لا ..لا ..لا تمت الآن !
وأسرعت إلى جهاز الصدمة الكهربية .. أضعه على صدره صارخا مع كل دفقة كهرباء : ابتعدي ..كانت الممرضة بعيدة عني لكني كنت أصيح بدافع العادة
لا استجابة..أكرر العمل
لا استجابة
لقد مات
سبقني ..
قل سبقت إرادة الله فيه إرادتي
**
وحين دخلت علينا الممرضة ورأت ما أقوم به ..
صرخت في هيستريا وقالت : يا دكتور ماذا تفعل؟
وأبعدت الجهاز وغطت رأسه
انتبهتُ .. ولملمتُ مشاعري ..وكفكفتُ دموعي .. وعدتً إلى حجرتي
———–
د. ياسر عبد التواب