“المحامي”.. قصـــــة: د. ياســـــر عبد التـــوّاب
نهض المحامي الكبير من جلسته في ثقة، كفارس قدير يهم بامتطاء صهوة جواده وساد القاعة سكون خاشع.
وتحركت شفتاه مبينة عن صوته العميق: فليسمح القاضي أن أعلق على مرافعة زميلي ممثل الدعاء..
وأستطرد بصوت أكثر خطابية: فالزميل المحترم قلب الحقائق رأسا لعقب
وأفترى على موكلي أيما افتراء ..
وأشار بيده إلي قفص الاتهام: ذلك الشاب البريء الذي يقف أمام عدالتكم ؛ والذي شوهت سمعته وسمعة والده المسئول البرلماني الكبير بسبب تلك المحاولات المتجنية وغير المسؤولة للزج به في تلك القضية.
واتجهت الأنظار إلي القفص في تلقائية حيث يجلس شاب ضخم الجثة غليظ الشفتين زائغ النظرة يرتدي (تي شيرت) عليه صورة ضخمة لامرأة غجرية ثائرة الشعر.
وتنحنح المحامي الكبير ليعيد لفت الأنظار إليه وأتبع ذلك بقوله: وما أشبه الليلة بالبارحة إن موكلي برئ براءة الذئب من دم ابن يعقوب وتلك المرأة تتهمه زورا كاتهام امرأة العزيز ليوسف الصديق..
وفي حركة تمثيلية استدار إلي الجهة الأخرى ثم أشار إلي امرأة شابة تجلس منزوية يعلو وجهها حزن عميق أخفى جمالا ذابلا أو كاد
وأكمل حديثه قائلا: ولكنا نثق في ثاقب بصركم وعميق تفكيركم
وسأعيد صياغة ما حدث وفقا للحق والحقيقة وليس كما أدعي زميلي الشاب
فوالد موكلي وبحكم طبيعة عمله العام تلاحقه وتلاحق عائلته الكثير من الطلبات وزوج هذه المرأة كان يلح عليه في التوسط له ليحصل على إسكان شعبي بدلا من شقته الآيلة للسقوط.
ومع كثرة مشاغل والد موكلي فإنه كثيرا ما يتعب عائلته معه لمساعدته..
وهكذا انتدب ابنه الشاب ليتفاهم مع تلك الأسرة في مشكلتها، ولكن كما يقول العامة (اتقِ شر من أحسنت إليهم)…
يا حضرات القضاة: إن اتهام الزميل المحترم لموكلي بأنه فتي أرعن مشهور بالفسق لهو اتهام عار عن الصحة فكيف يكون كذلك ووالده (حسن باشا) يضع ثقته فيه؟
وكيف يزعم زميلي الشاب بأنه أقتحم على المرأة منزلها مستدلا بخلعه لباب المنزل وقد عملنا أن لب المشكلة أن المنزل آيل للسقوط فما أيسر أن يخلع الباب مع طرقات شاب مثله
أما المرأة التي تدعي أنه أعتدي عليها مستدلة بآثار مقاومة على جسد موكلي فلم لا نقول أن المرأة ذات مزاج خاص، وهذا شيء معروف (فسيولوجيا وسيسيولوجيا وأنثربولوجيا) فلم لا نذعن لحقائق العلم وندعها لقول رعاع من الشهود كل شهادتهم أنهم استمعوا إلي صياح امرأة جائعة
هنا قاطعه القاضي على استحياء قائلا: ولكن الأمر متعلق بجريمة قتل
نظر إليه المحامي المرموق ببرود: إنه دفاع شرعي عن النفس ولعلي لن أضيف علما لعدالتكم بنصوص القانون التي تعذر من يضبطه الزوج في حالة كهذه وإلا فماذا سيفعل موكلي في مواجهة غضب الزوج الجارف!
لذا فإنني أقول بارتياح: أن الزوج هو صاحب الحق الوحيد في اتهام زوجه بهذا حسب نصوص القانون ..
والزوج الآن لم يفعل لأنه مات..!
لذا فقد سقط الاتهام الوحيد الذي يمكن أن يوجه لموكلي..
وسكت المحامي الكبير فجأة وأدار وجهه متفرسا في هيئة المحكمة وسط همهمة متنامية من الحضور
ثم قال: وأخيرا يا حضرات المستشارين فإني أضع تلك الحقائق كاملة أمام عدالتكم ؛ولكني أختم بأنه إن كان ثم مسئول فإنه تلك المرأة الرقطاء التي تحاول استدرار تعاطفكم بتلك الدموع الزائفة وهذا الانكماش المدعى فهي التي أرادت إغواء هذا الفتي الطيب مستغلة شبابه الواعد لإرضاء نزواتها.
صوت المرأة يرتفع في ضعف: حرام عليك حرام عليك.. نظر إليها باستعلاء ثم أردف قائلا في ثقة جهورية:
لذا فإنني أطالب هيئتكم الموقرة إلحاق أقصي عقوبة بها لتكون عبرة لمن يعتبر ولنرد لتلك الأسرة التي خدمت المجتمع بعضا من حقوقها علينا
ثم تنهد في ارتياح قبل أن يعود إلي مكانه جالسا في ثقة وسطو بين ضجيج الحضور واعتراض بعضهم ، وبعد المداولة جلس القاضي لينطق بالحكم ..وشعرت المرأة بالأرض تدور من تحتها قبل أن يحدق بها مجموعة من الجنود.
————-
د. ياسر عبد التواب