الأمة ووكالات| يثير إعلان إسرائيل الحرب رسميا، واستدعاء نحو 360 ألفا من جنودها الاحتياط، تساؤلات حول مدى قدرتها على خوض حرب طويلة دون أن يتعرض اقتصادها ومرافقها الخدمية لأضرار كبيرة.
جنود الاحتياط هم مدنيون يعملون في قطاعات صناعية وزراعية وخدمية مختلفة، وانقطاعهم عن أعمالهم لفترة طويلة من شأنه أن يؤدي إلى تضرر هذه القطاعات بصورة كبيرة.
وجيش الاحتياط يمثل في المتوسط نحو 65 بالمئة من إجمالي أفراد جيش الاحتلال، وفق مركز القدس للدراسات السياسية (مقره بيروت)، أي أنه يمثل العمود الفقري للجيش.
وهذه النسبة لا تكاد تكون موجودة في أي جيش آخر، وذلك لأن عقيدة الأمن القومي الصهيوني تقوم على فكرة “الحاجة إلى جيش المواطن”، أو ما يسمى “الأمة تحت السلاح”.
فاليهود المدنيون القادرون على حمل السلاح، ذكورًا أو إناثًا، معنيون كلهم بالمشاركة في الحرب، بمن فيهم المقيمون في الخارج، مع استثناء الفئة المتدينة منهم، الأمر الذي يثير جدلًا واسعًا بين الصهاينة حول المساواة.
ويتكون جيش الحتلال من ثلاث فئات، القوات العاملة، وأفراد الخدمة الإلزامية (ما بين 18 و21 سنة)، وقوات الاحتياط (لا تنتهي الخدمة الإلزامية في جيش الاحتياط إلا في سن 51 سنة).
ويتم استدعاء كافة الرجال المؤهلين إلى الاحتياط مرة في السنة، ولفترة معدلها 26 يوما للجنود و24 يوما للضباط، وفق مدير برنامج دراسات الأمن الوطني بجامعة حيفا العبرية جبرائيل بن دور.
ـ لمن يحشد نتنياهو هذا الجيش؟
تنبني عقيدة جيش الاحتلال على نظرية “أمة تحت السلاح” التي تعني التجنيد العام للرجال والنساء مع بعض الاستثناءات، انطلاقا من اعتقاد أن عدد سكان الكيان (نحو 8.9 ملايين نسمة) صغير مقارنة بدول الجوار العربية على رأسها مصر (أكثر من 105 ملايين نسمة).
لذلك يتم استدعاء كل رجل وامرأة قادر على حمل السلاح لتعويض النقص في عدد السكان والقدرات البشرية.
ووفق موقع “غلوبل فاير باور” الأمريكي، فإن عدد القوات اليهودية العاملة يبلغ 173 ألف عسكري، بينما يصل عدد قوات الاحتياط إلى 465 ألف عسكري.
أي أن تل أبيب استدعت نحو ثلاثة أرباع قوات الاحتياط، بينما عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني نسمة، أي أقل من ربع عدد سكان الكيان، ومع ذلك يتم حشد أكثر 530 ألف عسكري لقتال بضعة آلاف من المسلحين التابعين لكتائب القسام، الجناح العسكري حركة “حماس” الفلسطينية.
ولا توجد أرقام محددة لعدد أفراد كتائب القسام، لكن بعض التقديرات تقول إن عددهم يتجاوز 20 ألف مسلح، وقد يصل إلى 50 ألفا عند التعبئة.
وهذه الأرقام تعكس عدم توازن القوة بين جيش الاحتلال وكتائب القسام، من ناحية العدد، دون الحديث عن نوعية السلاح الذي تتفوق فيه عاصمة الكيان بشكل واضح.
ما يدعو للتساؤل لماذا يتم حشد كل هذا العدد من العسكريين وتعريض توازن الكيان للاختلال واقتصادها لأضرار كبيرة أمام قوة أصغر عددا وعدة؟!
وللإجابة على هذا السؤال يحتاج البحث عن الأهداف من هذه الحرب، فهيبة الكيان والأهم من ذلك قدرتها على الردع انهارت.
فبعد هجوم كتائب القسام على مستوطنات غلاف غزة في 7 أكتوبر الجاري، تداعت مرة أخرى هيبة جيش الاحتلال وقدراته الاستخباراتية.
لذلك ليس من المستبعد، استنادا إلى عدة تقارير إخبارية، أن تلجأ حكومة بنيامين نتنياهو إلى القوة المفرطة لاستعادة قوة الردع الإقليمية.
ـ أسابيع أم أشهر؟
يتحدث مسؤولون صهاينة عن حرب تدوم أسابيع، ما يؤكد أنهم لن يكتفوا بتطهير مستوطنات غلاف غزة من مقاتلي كتائب القسام، بل سيقومون بمحاولة اجتياح القطاع، لكن ليس بالضرورة أن يكون ذلك إعادة احتلال القطاع.
فوفق هذا السيناريو، فإن الحرب ستدوم أسابيع، أخذا بعين الاعتبار الحرب على غزة في عام 2014، والتي استغرقت 50 يوما (من 8 يوليو إلى غاية 26 أغسطس).
أما حرب لبنان 2006، فاستغرقت نحو 34 يوما (من 12 يوليو إلى 14 أغسطس)، فإسرائيل اعتادت على الحروب القصيرة التي لم تستغرق في حرب 1967 سوى ستة أيام.
وحتى حرب أكتوبر 1973، التي تمكن خلالها الجيش المصري من عبور خط بارليف (الدفاعي) لم تستغرق سوى 20 يوما (من 6 إلى 25 أكتوبر).
ونظرا لإدراك قادة الجيش المصري عدم قدرة جيش االاحتلال استدعاء الاحتياط لأشهر طويلة، لأنه يمثل القوة العاملة التي يقوم عليها اقتصاد البلاد، أطلقوا ما أسموه “حرب الاستنزاف”، بهدف إنهاك القوات الصيونية واستنزافها على الصعيدين العسكري والاقتصادي.
لكن حرب الاستنزاف (1967ـ1970) لم تكن حربا تقليدية، وإنما مجرد تبادل لإطلاق قذائف المدفعية على الجانبين، وتنفيذ عمليات خاصة منفصلة ومتقطعة، وغارات صهيونية على المدنيين، ومعارك محدودة على جبهات مصر وسوريا والأردن، وتفجيرات لعدة سفن حربية إسرائيلية، لكنها لم تحقق أي تقدم على الأرض لأي طرف.
فهذه الحرب كانت الوحيدة التي استغرقت أعواما بدل أيام وأسابيع، لكنها لم تكن حربا بالمعني التقليدي، ولم تكن عاصمة الكيان بحاجة إلى استدعاء كامل جنود الاحتياط طيلة هذه الفترة.
ـ حرب مختلفة
إلا أن حرب غزة 2023، تختلف عما سبق، فهي المرة الأولى منذ نصف قرن، التي تعلن فيها دولة الاحتلال الحرب “رسميا”.
كما أن دعوة متحدث عسكري صهيوني لسكان غزة بالفرار إلى سيناء قبل أن يتم نفيها لاحقًا بعد ردة فعل مصر الرافضة لسيناريو إقامة جيب فلسطيني داخل أراضيها، يعكس رغبة عبرية في إعادة احتلال القطاع، والقضاء على حماس وجناحها العسكري، وبقية الحركات الفلسطينية الأخرى وعلى رأسها حركة الجهاد الإسلامي.
هذا السيناريو يتطلب اجتياحًا بريًا، وخوض حرب مدن، خاصة أن نظرية الحروب التي تحسم جوا، التي نجحت ضد صربيا في 1999، لم تنجح لا في جنوب لبنان ولا في غزة خلال العشرين سنة الأخيرة.
فالحركات الفلسطينية أكثر قدرة على الصمود من الجيوش النظامية، وهو ما أجبر الكيان على خوض حروب برية في غزة رغم تسيدها سماء المعركة، إلا أنها في كل مرة تضطر للانسحاب، نظرا لحساسيتها للخسائر البشرية، وتضطر بعدها للتفاوض مع حماس حول تبادل الأسرى.
لذلك فمحاولة جيش الاحتلال التوغل داخل مدن وأحياء غزة من شأنه رفع التكلفة البشرية للحرب وإطالة زمنها، لأنه سيضع قواته ومدرعاته تحت مدى أسلحة مقاتلي حماس، ما يلغي التفوق التكنولوجي للجيش الصهيوني، ويجعل القتال من مسافة صفر.
وحتى لو تمكن جيش الكيان من احتلال كامل قطاع غزة، فإن قدرته على البقاء في القطاع لمدة طويلة محل شك.
فمدة الحرب مرتبطة بمدى صمود الفصائل الفلسطينية، وتكتيكها، هل ستخوض حرب مدن، أم تفضل حرب العصابات، التي لا تتطلب التمسك بالأرض، وإنما الكر والفر والكائن.
كما ترتبط مدة الحرب وفق أهداف الكيان، التي تريد استعادة قدرة الردع، ومدى توسع هذه الأهداف أو تقلصها، بناء على تطورات الحرب، وهل هناك ضغط دولي يجبر جيش الاحتلال على وقف مجازرها في غزة، أم أن شظايا الحرب ستطال دولا أخرى مثل لبنان، ما يؤدي إلى توسيعها بقصد أو بدون قصد.
ـ جيش فقد حماسه
وهناك عامل آخر مهم، يتعلق بفقدان جنود الاحتياط الحماس للالتحاق بالجيش، حيث كشفت دراسة أجراها جيش الاحتلال بأنه “في حالة منح الخيار لن يتقدم معظم جنود الاحتياط للخدمة العسكرية”.
بينما كان الأمر في 1974 لا يتجاوز 20 بالمئة فقط، وأظهرت دراسة جرت نهاية التسعينات أن اثنين فقط من بين كل 11 جندي احتياط تقدموا فعلا للخدمة العسكرية.
ويشير الأكاديمي اليهودي جبرائيل بن دور، إلى “ازدياد عدد الجنود المتسربين من جيش الاحتياط قبل سن الاعفاء الرسمي بنسبة أكبر من عدد الجنود الجدد المجندين للخدمة الإلزامية في الجيش”.
وتعكس هذه الأرقام ضعف جاهزية جنود الاحتياط للالتحاق بالجيش، بل فرارهم من الخدمة العسكرية الإلزامية، ناهيك عن معاناتهم من التمييز، فالشباب الأقل من 35 سنة يرسلون إلى الخطوط الأمامية للقتال، ومن هم أكبر سنا يوضعون في الصفوف الخلفية للأعمال اللوجستية.