
السنوات الأخيرة، برزت تركيا كقوة إقليمية فاعلة تتحرك بين محاور متصارعة، مستفيدة من موقعها الجغرافي ووزنها السياسي والعسكري داخل منظومة حلف شمال الأطلسي (الناتو) من جهة، وعلاقاتها المعقدة مع روسيا وإيران والصين من جهة أخرى. ومع صعود دور الرئيس رجب طيب أردوغان، اتخذت السياسة الخارجية التركية طابعًا أكثر استقلالية ومرونة، يعتمد على مبدأ “توازن المصالح” أو ما يُعرف اصطلاحًا بسياسة اللعب على المتناقضات.
ماذا تريد الولايات المتحدة من تركيا؟
تسعى واشنطن إلى الحفاظ على تركيا كحليف استراتيجي لعدة أسباب رئيسية:
التحكم في التوازن الإقليمي داخل الناتو: لا سيما مع تزايد التهديد الروسي في أوكرانيا والبحر الأسود، تحتاج الولايات المتحدة إلى تركيا كحائط صد في الجناح الجنوبي للحلف.
الملف السوري: تعتبر قاعدة “إنجرليك” الجوية أحد أبرز الأصول الأمريكية في المنطقة. كما تعتمد واشنطن على تركيا في ضبط الحدود ومراقبة الحركات الجهادية المتطرفة.
الحد من تمدد النفوذ الروسي والإيراني: خاصة في الملفين السوري والليبي.
السيطرة على ملف المهاجرين: إذ تمثل تركيا بوابة عبور لأكثر من 3 ملايين لاجئ سوري، ما يمنحها ورقة ضغط قوية في التفاوض مع أوروبا وأمريكا.
ممر الطاقة البديل: حيث تسعى واشنطن لتقليل اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، عبر خطوط تمر من أذربيجان وتركيا.
تناقضات في العلاقة
ورغم أهمية تركيا الاستراتيجية، تشهد العلاقات بين الجانبين توترات متكررة، أبرزها:
صفقة صواريخ S-400 الروسية: والتي دفعت الولايات المتحدة لفرض عقوبات جزئية على أنقرة، واستبعادها من برنامج الطائرات المقاتلة F-35.
الدعم الأمريكي لوحدات حماية الشعب الكردية في سوريا: والتي تعتبرها تركيا امتدادًا لحزب العمال الكردستاني (PKK) المصنف إرهابيًا في أنقرة.
الخلاف حول حقوق الإنسان وملف الحريات: حيث توجه الإدارة الأمريكية انتقادات متكررة لتركيا بشأن تراجع الحريات الإعلامية والاعتقالات السياسية، مما يزيد الفجوة بين الطرفين.
استراتيجية أردوغان في إدارة التناقضات
منذ محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، تبنّى أردوغان سياسة خارجية متعددة المسارات، تقوم على:
تنويع التحالفات: عبر بناء علاقات مع روسيا (رغم تاريخ العداء)، وفتح قنوات مع إيران والصين، دون الخروج من عباءة الناتو.
التحرك المستقل في ملفات ساخنة: مثل التدخل العسكري في شمال سوريا، دعم حكومة الوفاق في ليبيا، المشاركة الفعالة في حرب ناغورنو كاراباخ إلى جانب أذربيجان.
الاستثمار في الخطاب الإسلامي: سواء من خلال الدفاع عن القضية الفلسطينية، أو تحويل “آيا صوفيا” إلى مسجد، ما عزز شعبيته في الشارع الإسلامي.
استخدام الاقتصاد كسلاح تفاوض: رغم التحديات الاقتصادية، ما زالت تركيا تمثل سوقًا ضخمة وممرًا حيويًا للطاقة والسلع بين آسيا وأوروبا.
تركيا تصوغ دورها الجديد
أثبتت تركيا خلال العقد الأخير أنها ليست مجرد تابع لسياسات واشنطن أو بروكسل، بل أصبحت لاعبًا فاعلًا يحسن إدارة التوازنات الدولية. وبينما تحاول الولايات المتحدة احتواء الصعود التركي دون خسارته، يواصل أردوغان اتباع سياسة مرنة تُمكّنه من الاستفادة القصوى من التناقضات الدولية.
في ظل صراع الأقطاب وتصاعد أزمات النظام الدولي، يبدو أن أنقرة ستواصل تقديم نفسها كقوة مستقلة تبحث عن مكان دائم في مائدة الكبار، مستفيدة من انقسام العالم، واهتزاز مركزية القرار الغربي.